يقول عثمان بن بشر في (عنوان المجد في تاريخ نجد) (في سنة إحدى وتسعين وألف) وقع بمكة سيل عظيم أغرق الناس - قال العصامي في تاريخه، وأخرب الدور وأتلف الأموال ما لا يحصى وأغرق نحو مائة نفس وهدم نحو ألف بيت وعلا على مقام إبراهيم وعلى قفل الكعبة. وشاهدت وأنا على باب المسجد النافذ على البيت الشريف والماء ملأ الطريق وهو يكون في المسجد واقطار من الجمال عليها الركبان دهمها السيل ورأيت الماء وصل من الجمل وهو قائم إلى منخره ثم زاد واقتلع القطار بما عليه وسبح بعض الجمال حتى أتى المنبر فارتفع عليه وصار يداه وعنقه مرتفعان وفي هذه السنة طلع نجم له ذنب في القبلة.
بالطبع حينها لم يقل ابن بشر إن ذلك بسبب ما ارتكبه أهل مكة من معاصي وذلك لأنه حدث في أطهر بقعة في الأرض (وفي بيت الله تحديداً) وهذا يدل على أن علماء ذلك الزمان أكثر وعياً وأرجح عقلاً من (بعض) متنطعي العلم في هذا الزمان الذين ينتهزون أية فرصة للنيل من أخلاق الناس والشك في إيمانهم والطعن في سلامة عقيدتهم وتأويل أي حدث بأنه مجرد عقاب شامل مع أن رب العزة جلت قدرته يحاسب الناس كل بما جنت يداه وما فعل انطلاقاً من الآية الكريمة {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وكل امرئ بأعماله يؤخذ وهذا الكلام نسوقه اليوم بمناسبة ما حدث من لغط تأويلي وانتهازي صاحب سيول مدينة جدة الأخيرة إذ عزى بعض المتنطعين أن ما حدث في جدة هو عقاب لما ارتكبه أهلها من معاص(!!) ناسين هؤلاء أو متناسين أن مثل هذه الظواهر الطبيعية تحدث في أكثر البلدان إيماناً وأكثرها كفراً وهي تحدث في بلاد المسلمين مثلما تحدث في بلاد الوثنيين وأصحاب الديانات السماوية الأخرى فنحن لو أسلمنا بمقولة هؤلاء المتنطعين لرأينا أن بلاد المسلمين اليوم هي الأكثر ازدهاراً وجمالاً وخضرة وأمناً واطمئناناً ورغداً أكثر من بلاد الكفار التي تنعم بهذه الصفات التي تفتقدها اليوم بلاد المسلمين وللأسف الشديد.
ونحن إذ نشير إلى مثل هذه الشواهد التاريخية التي ولاشك تحدث بأمر رب العالمين كظواهر طبيعية فلأننا لا نريد أن يستغلها المرجفون والمهولون وربطها بما في أنفسهم، أقول إننا حينما نفعل ذلك فلأن الذين سبقونا كانوا يدركون حقيقتها لربما أكثر منا وللأسف فهاهو ابن بشر ينقل أيضاً عن الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي في تاريخه إذ قال: في أول سنة سبع وعشرين وألف ظهر في الشرق عمود أبيض مستطيل كطول المنارة فأرجف المرجفون بأراجيف وظنوا وقوع أمور مهولة وكذبوا والله.
يبقى القول أخيراً إننا نتمنى أن لا يظهر علينا مرجفون آخرون مثل الذين فسروا سيول جدة بأنها عقاب لهم على كثرة المعاصي ويقولوا لنا إن كسوف الشمس الجزئي الأخير الذي شاهدناه يوم الجمعة الفائت أنه عقاب لسكان الكرة الأرضية (كلهم) على ما اقترفوه من معاص مع أننا حقيقة نتفق مع (المهولين) في نقطة واحدة(!!) ألا وهي أننا نتمنى من القلب كله بل ونضرع إلى الله أن يعاقب كل مرتكب معصية بحق نفسه وبحق الآخرين وبحق العالم كله سواء أكان فرداً أو مجموعة أو دولة أو دولاً إنه سميع مجيب.