التخلف الحضاري الذي يعم الأمة، خاصةً في جوانب البحث العلمي والتقدم الصناعي والتطور التقني، يعد أحد أبرز القضايا الكبرى التي تشغل قطاع عريض من الكتَّاب والمفكرين والعلماء والإعلاميين، الذين تتباين رؤاهم في تحديد.....
... مكمن البداية الحقيقية في علاج هذا التخلف والعامل الرئيس للخلاص من مأزقه، الذي لم يجعل الأمة في مؤخرة الركب الحضاري فحسب، بل جعلها عالة على
الأمم الأخرى في غذائها ودوائها وسلاحها وكل شؤون حياتها. من تلك الرؤى ما تربطها في (ضعف الجانب الديني) لدى الأمة وأنه لن يصلح حال آخرها إلا بما صلح به حال أولها، وأخرى تراه في (ضعف الجانب السياسي) المرتبط بالأنظمة السياسية القائمة، التي لم تستطع أن تحقق معدلات إيجابية في مسيرة تنمية شعوبها بشهادة تقارير التنمية البشرية التي تصدر كل عام، وثالثة تراه في (ضعف الجانب المعرفي) المرتبط بدور العقل في صناعة الحضارة الحقيقية على غرار العالم الغربي، الذي حقق سيادة العقل المطلقة على كل أوجه الحياة واعتباره المرجعية في كل شؤونه الدينية والدنيوية، فكانت عصور النهضة الأوروبية بمحطاتها الرئيسة والفاعلة في تشكيل الحضارة الغربية وهي (الحركة الإنسانية، والإصلاح الديني، والثورة الصناعية، وعصر التنوير).
هذا الفريق الذي شخّص المشكلة ب(ضعف الجانب المعرفي) للإنسان العربي المسلم، ووجد الحل في إعلاء شأن (العقل)، ينطلق من فكرة محورية تقوم على تحرير هذا العقل أولاً، بحيث لا يخضع لأية وصاية فكرية أو أن يكون محكوماً بمسلمات أو ثوابت مفروضة عليه أو بديهيات تشبّع بها عقله وصار (عقلاً تسليمياً)، إنما ينطلق في فضاء المعرفة بحثاً عن الحقيقة، من خلال محاور (السؤال والنقد والشك)، فله أن يسأل قبل أن يُسلّم، وله أن ينقد قبل أن يعتقد، وله أن يمارس الشك في ما حوله وفي ما يقرأ أو يشاهد لأن منهج الشك يقود إلى اليقين. كون (السؤال أو النقد أو الشك) في النظم الفكرية والمعتقدات الاجتماعية الشروحات الدينية سيُسهم في تحويل (العقل التسليمي) المحكوم بفكر الآخر إلى (عقل شكي) متحرر ثم إلى (عقل معرفي) محكوم بفكر نفسه. كل ذلك في إطار الدعوة لتعليم الفلسفة في المدارس وممارستها في المؤسسات الإعلامية والثقافية والعلمية، إلى هنا قد تبدو الأمور منطقية لأن هذا الفريق وهم دعاة (العقل الشكي) لهم كامل الحق في المساهمة بالرأي والتفكير الحر كبقية كل أطياف المجتمع.
لكن الإشكال الحقيقي يكمن في كونهم يعانون ازدواجية في واقع الأمر، ازدواجية في الممارسة الواقعية بما يخص هذا العقل إزاء كل ما حوله من ظواهر وقضايا ونظم ومعتقدات، سواءً معاصرة أو تاريخية، فالذي يدعو ل(تحرير العقل) ورميه في أحضان الشك وتسليحه بالسؤال المجرد والنقد الحر هو أول من يفرض على العقل الحجر الفكري والانقياد المعرفي عندما يتعلق الحال بموروث الغرب الفلسفي وتاريخه الحضاري، كقضية (المنهج التجريبي) التي تعتبر المنعطف الحقيقي لمسار الحضارة الإنسانية فينسبها إلى الغرب في عصور نهضته بينما هي من إبداع المسلمين في عصور حضارته، أو يفرض عليه الوصاية ووجوب التسليم عندما يتعلق الأمر بأسرار الغرب وقضاياه المعاصرة. فمثلاً.. لا يحق لك أن تتساءل عن مدى صحة هبوط الإنسان على القمر أو تناقش تفجيرات منهاتن بنيويورك، أو الأسباب الحقيقية وراء الأزمة الاقتصادية العالمية، فأنت بنظرهم موبوء ب(نظرية المؤامرة) رغم أن الغرب نفسه هو أول من شكك بذلك الهبوط الفضائي للإنسان، وأول من شكك وما زال في سيناريو أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما وضع احتمالات لم تسلم من الشك بشأن أسباب تلك الأزمة التي شفطت استثمارات دول معينة، بل إن دعاة (العقل الشكي) يرفضون رفضاً قاطعاً (نظرية المؤامرة) رغم أنها في حقيقتها تقوم على (الشك) في طرف ما وفقاً لظواهر ومواقف مشبوهة، فكيف تطالبني بمنهج أنت أول من ينقضه؟
Kanaan999@hotmail.com