منذ مقاله التأسيسي (الصارخ)، الذي نشره قبل سنوات قلائل، وكان يتساءل قائلاً: (من سرق البسمة من شفاهنا)..؟ منذ ذلك المقال الفاصل بين (الخيط الأبيض والخيط الأسود)، واليوم الفاصل بين (الخفي وغير الخفي)،
و(المعلوم وغير المعلوم) في ثقافتنا السعودية، وأنا أتابع النشاط الثقافي والفكري لشاعر الكلمة، وأمير (الإرادة في الإدارة)، الأمير (خالد الفيصل)، لعلي أجد في ابتساماته المتفائلة، أو كلماته المنحوتة المتوازنة، ما يكشف عن حقيقة السارق، ويوضح شكل المسروق، في شأن الابتسامة الوطنية المسروقة، إلى أن جاء يوم تدشين (كرسي خالد الفيصل لمنهج الاعتدال)، في رحاب جامعة (الملك عبدالعزيز)، يومها أدركت أن الأمير خالد الفيصل قرر دعوتنا في هذا الوطن الجميل؛ كي نعتلي جميعاً هذا (المنبر الفيصلي) في الجامعة العريقة في جدة، التي تحمل اسم مؤسس المملكة، وموحد أطرافها، وباني أسس نهضتها وعزها وشموخها، الملك (عبدالعزيز آل سعود) - رحمه الله -؛ لنرى من أعلى الكرسي (المنبر) من سرق البسمة من شفاهنا، وأين هي البسمة اليوم، وسط جحافل من لصوص الفرح، وسُرّاق البهجة، وخاطفي البسمات..؟
* في خطابه التأسيسي والتأصيلي لكرسي منهج الاعتدال ذكّر الأمير خالد الفيصل بالمرحلة الأولى المتقدمة في تاريخ المملكة، وهي مرحلة التأسيس والتأطير في حياة الملك عبدالعزيز - رحمه الله -. قال إن (التطرف في تلك المرحلة كان موجوداً، لكن الاعتدال انتصر عليه).. هذه حقيقة.. فالملك عبدالعزيز - رحمه الله - كان على رأس دولة كبيرة مهابة. أرادها كذلك، فأصبحت كذلك. وكان قائداً عالمياً، ولم يكن شيخ قبيلة أو كبير عشيرة، وكان زعيماً نهضوياً وتطلعياً بطبعه، وقد سارع بدون تردد أو تخوف أو تحرج إلى الاستعانة بخبرات وكفاءات عربية ودولية، ساهمت معه في التخطيط والتنفيذ، للتغيير والتطوير؛ فوجد السعوديون أنفسهم في زمن قصير أمام متغيرات علمية وثقافية وصناعية وزراعية هائلة، فإما أن ينخرطوا فيها فيتغيروا معها إلى ما هو أفضل، أو ينكفئوا على بيوت الشَّعر والشاة والناقة وقطع الطريق والغزو؛ فاختاروا الأمثل والأفضل، وانشغلوا بالبناء والعمل والتعمير، حتى أصبحت المملكة في قلب العالم؛ فخرجت بذلك من عباءة تلك الدولة الطرفية المجهولة، التي لا زرع فيها ولا ماء، كما كان يقول عنها جيرانها العرب في سنوات سبقت توحيدها.
- لا شك أن المجتمع السعودي فيما بعد - وبعد أقل بقليل من ثلاثة عقود من وفاة الملك عبدالعزيز رحمه الله - تعرض لهزة عنيفة؛ فوجد نفسه أمام مرحلة سوداوية، مرحلة ضبابية ومغايرة؛ فقد استنسرت البغاث، واستفحلت النوق، وتمكنت جحافل الظلام من بسط نفوذها على ثقافة شعب أصيل في ديانته وحضارته وعروبته، متسامح بطبعه، فما أسرع أن أصبح للتشدد والتطرف، بعيد حادث احتلال الحرم المكي، من قبل زمرة الخوارج الجهيمانية، لغته المسجوعة، ومنابره المرفوعة، وأصواته المسموعة، فحدث وقتها ما يشبه الردة الثقافية، التي جعلت من منهج الاعتدال المعروف عن الدولة السعودية وشعبها، جزءًا من تاريخ مضى، وذكرى جميلة، يتسلى بها المثقفون في منتدياتهم الخاصة، وقد اكتفوا بالتفرج على المسرح الهزلي آنذاك، بعد أن رماهم التطرف بالعلمانية والزندقة، وزحزحهم من طريقه بالتكفير، وعطل عند كثير منهم ملكة التفكير.
- كرسي الاعتدال الفيصلي في جامعة الملك عبدالعزيز منبر تنويري مضاد لمنابر ظلامية كثيرة مزروعة على ترابنا الوطني، وكلها تدعو إلى التخلف والانغلاق والعزلة. بل كثير منها يدعو إلى عزلة دينية ودنيوية معاً؛ فالمتطرفون دينياً لا همَّ لهم سوى تزهيد وتبئيس الناس في حياتهم، وتيئيسهم من آخرتهم، ولهذا عانينا وما زلنا نعاني من المكفرين، ونواجه منتجهم المتمثل في الانتحاريين، الذين يريدون أن يموتوا قبل أوانهم، حتى يلاقوا الحور العين، لكنهم يصرون على قتل الأبرياء في طريقهم.
- التأصيل العلمي لمنهج الاعتدال السعودي، وتعزيز الوحدة الوطنية، ونشر ثقافة الاعتدال، وإبراز صورة منهج الاعتدال السعودي، وكذلك تعزيز الانتماء الوطني، ونشر الوعي بخطورة الأفكار المنحرفة للتطرف والغلو.. كل ذلك يمكن أن يتحقق من خلال برامج وبحوث كرسي الأمير خالد الفيصل في جامعة الملك عبدالعزيز. هذا منبر واحد، وصوت واحد، وقناة واحدة، في مواجهة آليات إعلامية لا يستهان بها، من فضائيات ومنتديات وصحف إلكترونية، كلها تستهدف الشباب السعودي، وتسعى إلى تغريبه عن وطنه، وتغريبه عن عروبته، وتغريبه عن مجتمعه وثقافته؛ وبالتالي: تغريب عقله وجهده وولائه وماله، إلى شعوب بعيدة، وفصائل متناحرة، وفئات مشبوهة، بحجة: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وهذا حديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وضعّفه الشيخ الألباني، وأنكره الشيخ ابن باز رحمهم الله تعالى، وكأن هذا الاهتمام لا يتحقق إلا إذا تخلينا عن وطنيتنا، وألغينا وطننا، وغرّبنا أموالنا وزكواتنا وخيريتنا، إلى هواة القتل، وتجار السلاح والخشخاش، والمتجحرين باسم الجهاد وعالمية الإسلام، والأممية المعشعشة في جماجم الصحويين، الذين لا وطن لهم ولا أمة، إلا ما كان في أحلامهم فقط.
- إن إيهام الشباب السعودي بأنه في ضياع، وأن الإنسان السعودي محتار في أمره، وأن الشباب السعودي مصاب بفراغ فكري وروحي وثقافي، وألا خلاص له إلا بالانتماء إلى هذه الفئة أو تلك، من الذين يدعون أن خلاص (الأمة) على أيديهم، بينما هم في حقيقة الأمر يفرضون وصايتهم البغيضة على مجتمع واع، وشعب حر أبي، له جذوره الدينية والتاريخية والحضارية، هؤلاء كما قال الأمير خالد الفيصل: يكذبون ويدلسون على الشباب؛ لأنهم يريدون أن ينسى السعوديون - شيباً وشباناً - ما كان عليه أسلافهم من منهج معتدل، وما تحقق لدولتهم وشعبهم نتيجة هذا الاعتدال، من نمو وتطور، ومن احترام عالمي كبير.
- أختم بما هو مؤمل من (كرسي الأمير خالد الفيصل لمنهج الاعتدال)، حيث قال خالد الفيصل في هذا الاتجاه: (لا للتطرف.. لا للتكفير.. لا للتغريب.. نعم للاعتدال في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة.. إنه الدين والحياة.. إنه الإسلام والحضارة.. إنه منهج الاعتدال السعودي).
- وكل منبر جديد لمواجهة التطرف والتشدد والتكفير، والجميع يفكرون بخير ومحبة وسلام وابتسام.
assahm@maktoob.com