عديدة هي مكونات الشخصية، ولكل مكون قيمته وأهميته في تكوين الشخصية وتكاملها ونضجها، ويعد المكون العقلي بعملياته وبمدركاته ومفاهيمه، أحد المكونات الرئيسة ذات القيمة المطلقة في التواصل والتفاعل والتأثير، وبقدر توازن هذا المكون ونضجه ومنطقيته وعدالته والتزامه، بقدر ما يحتل المكانة الرفيعة التي يتطلع إليها في منظومته المجتمعية التي ينتمي إليها، ويسعى إلى التفاعل معها وتنميتها وتطويرها، ويعزز هذا المكون ويدعمه، المكون الوجداني الذي يمهد سبل التواصل ويسهلها في أجواء من التسامح والتآخي والتقبل، شريطة أن تتسم معالم الوجدان بالهدوء والرزانة والبعد عن صرعة الغضب والانفعال.
لكن عندما يطغى الانفعال والغضب على النفس، وتتجرد النفس من مبادئها وقيمها ووقارها، وتتخلى عن مثلها وشعاراتها، وتضرب عرض الحائط ما كانت تدعو إليه وتؤمن به، وتعده من مسلمات نهجها، وثوابت قيمها وأيديولوجياتها، وعندما تُنحي العقل وتغيبه عن إدراك المثيرات وفهمها كما حدثت فعلاً من مصادرها ووفق إطارها، فإنها والحال هذه تخرج من طبيعتها البشرية إلى مسخ آخر لا يشبه البشر إلا في خصائصه الجسمية، وإشباع حاجاته المادية، بل ربما نزلت في بعض صور ممارساتها إلى درجة أدنى قدراً من بعض مخلوقات الله التي لا تدرك ولا تفقه، والسبب يكمن في كونها لم تعد تميز بين حق ولا باطل، لا يهمها أنصفت أو جارت، ظلمت أم عدلت، قالت حقاً أم زوراً، منطقية هي أم مجرد سفسطائية، المهم عندها أن تفرغ شحنات غضبها بأسلوب هستيري لا يأبه للعواقب والمآلات والمترتبات على هذه الشحنات الغاضبة المجانبة للحق والعدل.
إن تغييب العقل والمنطق السليم يفضيان إلى هيمنة النفس الأمارة بالسوء، والله سبحانه وتعالى لا يحب الجهر بالسوء إلا لمن لحق به جور وظلم، انظر الآية 148 سورة النساء، فالجهر بالسوء يؤذي النفس ويفضي إلى الفرقة والوحشة والتدابر والتناحر والبغضاء.
وتحكيم العقل يفضي إلى تصرفات منطقية هادئة متوازنة متوافقة منسجمة مع ما يجب فعله في الشدائد والمواقف التي قد تتعارض مع ما يتمناه المرء، أو مع ما يحول دون بلوغ غايات وأهداف تبدو مقبولة عنده لكنها مرفوضة عند غيره، وتحكيم العقل وضبط الانفعال في مواقف الشدة دليل على رجاحة عقل الإنسان، وقوة إرادته وقدرته على السمو والترفع عن صغائر الأمور.
وهنا يتجلى الكبار الأشداء الذين يسيطرون على زمام أنفسهم عند الغضب، فالغضب مؤشر صريح يدل على انهزام وضعف، فعندما ترى إنساناً يواجه ما لا يتوافق مع رغباته بالصراخ والسب، فاعلم أنه إنسان مهزوم من داخله، ولهذا يلجأ إلى التغطية على انهزامه بما يستطيعه من عبارات نابية، ومقولات فجة، وحركات مضطربة من أجل شد انتباه الآخر وصرفه عن مواطن الخلاف.
يتبين من تقييم التصرفات في المواقف التي تتعارض مع ما يؤمن به البعض، أو تلك التي تعوق ما يتطلعون إلى بلوغه، أن أمام توطين مفاهيم الحوار وأدبياته طريق طويل جداً من الجهد كي يتعلم الناس أساليب الحوار وآدابه، وقيمه وأخلاقه، فالمستقرئ للواقع يتبين له أن هناك فئات ما تزال في أزمة وضائقة عقلية، وأنها غير قادرة على التعامل المنصف الموضوعي في مواقف الاختلاف، وإدارة الحوارات، حيث يغلب على هؤلاء شخصنة التناول والتحليل، والانفعال والتحرض والتشكيك.
إن التعريض بالأشخاص، ومواجهة المواقف بالانفعال والغضب يفضيان إلى الفرقة بين أطياف المجتمع، ويجهضان الحرية في إبداء الرأي؛ لأن الشخصنة والانفعال يحركان شحنات التطرف ويذكيانها، وهما إعلان صريح عن مصادرة الرأي الآخر، ومثال واضح للاستشهاد في التدليل على عدم التوفيق في القول والموقف من المخالف.