أرادت الإدارة الأمريكية السابقة.. إدارة بوش المتصهينة.. أن تخلق في منطقتنا ما سمَّته الفوضى الخلاَّقة. وهذا جزء مما أطلقت عليه مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وهو في حقيقة الأمر أمركة منطقتنا بمختلف الوجوه. وهذا المشروع الخبيث الأهداف من جوانبه ما لم ير النور، ومنها ما يتحقَّق؛ يدرك ذلك من يدركه ويخفى عن آخرين يقلُّون أو يكثرون.
في التزامن مع ذلك كثر المفتون في القضايا الشرعية كما كثر المفتون في القضايا السياسية. ومن المعلوم أن الإفتاء في القضايا الشرعية له شأن خطير. وكثرة المفتين؛ ولا سيما غير المؤهلين للفتوى، تجعل الناس في حيرة من أمورهم. وكنت قد أشرت إلى ذلك في بيت من قصيدة عامية قائلاً:
كلّ من كوَّر على راسه عمامة
قال أنا المفتي وأنا قاضي الشريعه
وفي بعض الأحيان - وإن تكن قليلة - تأتي الفتاوى الشرعية مسيَّسة، فتكون مخالفة للحقيقة وبلاء على الأمة. ومن فتاوى مؤسسة دينية عريقة ما نسبت حاكماً إلى البيت النبوي، والمفتون قبل غيرهم يعلمون أن تلك الفتوى افتراء. ومن الفتاوى فتاوى مُضلَّلة زيَّنت لشباب الأُمَّة ما أوقعهم في مهالك لأنفسهم وأوطانهم وأُمَّتهم.
أما بعد:
فهذه القراءة فيها إشارات مختصرة جداً إلى مسائل في كتاب يستحق أن يقرأ قراءة تأمل للمقارنة بين جو الزمن الذي كتب فيه وجو الزمن الذي يعيشه كاتبه - ونعيشه معه - الآن. وعنوان هذا الكتاب - كما ذكر في عنوان القراءة: «بنو إسرائيل في القرآن والسنّة» من تأليف الشيخ محمد سيد طنطاوي. وكان رسالة قدَّمها كاتبها لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر عام 1386هـ/1966م. ثم طُبعت، ونُشِرت كتاباً، بعد ذلك بعامين. وهو من جزأين: بدأ الجزء الأول منه بإيراد تحذير الرئيس الأمريكي فرانكلين من اليهود، فمقدَّمة بيَّن فيها باختصار ما يشتمل عليه كل فصل من فصول الرسالة الثمانية، وجعل الخاتمة للحديث عن الغزو الصهيوني لفلسطين وقيام كيان الصهاينة فيها.
وفي الفصل الثالث من الكتاب تحدث الشيخ طنطاوي عن مسالك اليهود لكيد الإسلام والمسلمين، مثل محاولتهم الدس والوقيعة بينهم، ومحاولاتهم صدهم عن دينهم، وتحالفهم مع المنافقين والمشركين ضدهم، وإيذائهم للنَّبي، صلَّى الله عليه وسلم، ومحاولاتهم قتله.
أما الفصل السادس من الكتاب فتحدَّث فيه كاتبه عن رذائل اليهود كما يصوِّرها القرآن الكريم، مثل نقضهم العهود والمواثيق، وكراهيتهم الخير لغيرهم بدافع الأنانية والحسد، وتحريفهم الكلم عن مواضعه. وأما الفصل السابع فعن دعاوى اليهود الباطلة وكيفية رد القرآن عليها؛ مثل دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: إن ذنوبهم مغفورة لهم، وقولهم: يد الله مغلولة. ومما ذكر في هذا الفصل نماذج من إفسادهم في الأرض. ومن هذه النماذج القتل والاغتيال، والتجسس، وإثارة الفتن والحروب والثورات؛ ومن ذلك أنهم أوقدوا الحربين العالميتين وهم وحدهم الذين استفادوا من ورائهما المال الوفير، وأن العدوان الثلاثي على مصر كان من تدبيرهم، وهم الذين أعدُّوا للثورة الشيوعية، سنة 1917هـ، وتولَّوا زمام الحكم بعد نجاحها؛ إذ كان المكتب الشيوعي مكوَّناً من سبعة عشر عضواً منهم أربعة عشر يهوداً وثلاثة من أصول يهودية زوجاتهم يهوديات. وهم الذين وراء إنشاء الحركة الماسونية، كما أنهم ميشعوا الرذائل والفواحش. ومما أورده الشيخ، هنا، قول أحد زعماء اليهود، أوسكار ليفي: «نحن اليهود لسنا إلا سادة العالم ومفسديه ومحركي الفتن فيه وجلاديه».
على أن من أهم ما اشتمل عليه كتاب الشيخ طنطاوي هو خاتمته، التي تحدث عنها حديثاً مفصلاً عن «فلسطين ومراحل الغزو الصهيوني لها».
ومما تحدَّث عنه كلمة الصهيونية، التي قال: إن من أهدافها إعادة بناء معبدهم المسمى هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى المبارك. ومما تحدَّث عنه، أيضاً، في الخاتمة تطور الحركة الصهيونية، نشأة فكرية وتطبيقاً عملياً. ومما أشار إليه قيام مجلس ينتخبه اليهود المقيمون في خمسة عشر بلداً من بلدان مختلفة أغلبها من أوروبا، تكون قراراته مقبولة من الجميع، ويؤدِّي إلى اتفاق مع فرنسا ليكون هناك وطن لليهود يمتد من «إقليم الوجه البحري من مصر مع حفظ منطقة واسعة المدى يمتد خطها من مدينة عكا إلى البحر الميت ومن جنوب هذا البحر إلى البحر الأحمر». ومما تحدَّث عنه الشيخ جهود هرتزل، وموقف السلطان عبدالحميد النبيل من تلك الجهود، ودفعه ثمن ذلك الموقف بعزله عن الحكم، وكون واحد من بين الثلاثة الذين سلَّموه قرار العزل يهودياً اسمه قره صو أفندي.
ثم تتبَّع الشيخ طنطاوي ما قامت به بريطانيا، ربة المكر والخداع، من جهود جبارة خبيثة لتمكين الصهاينة من السيطرة على فلسطين، وما قام به المجاهدون أمثال الشيخ عزالدين القسام من أعمال بطولية واكبها أشبه ما يكون بخذلان من بعض زعماء العرب. ثم ذكر ما قام به المسؤولون البريطانيون من تسليم بلدان وأمكنة فلسطينية، واحدة بعد أخرى، مع ما كان فيها من عتاد وأسلحة للصهاينة مَكَّنتهم من الاستيلاء على كثير من أراض فلسطين؛ مرحلة مرحلة. وفي ختام الخاتمة أشار الشيخ طنطاوي إلى أسباب كارثة فلسطين؛ ومنها:
1- ضعف الوازع الديني في نفوس الكثيرين من المسلمين.
2- الغفلة الشديدة عن تعرف مواطن الخطر المحيط بالأمة، واغترار بعض المسؤولين العرب بخداع البريطانيين، الذين أوهموهم أن اليهود لن ينالوا من فلسطين سوى منطقة صغيرة، وحملوهم على إبعاد العناصر المؤمنة المخلصة عن الاشتراك في الدفاع عن فلسطين بحجة أنهم مغالون وبعيدون عن الحكمة والكياسة.
3- قلة الجهود المادية والمالية المبذولة في سبيل بقاء فلسطين عربية إسلامية.
4- تَفرَّق قيادات العرب وسياساتهم المتخاذلة المترددة.
5- توقيع الهدنتين الأولى والثانية بين العرب واليهود نتيجة ضغط بريطانيا وأمريكا على بعض الدول العربية.
ولكي تستعاد الحقوق يرى الشيخ طنطاوي أنه يجب:
1- الإيمان بأن حرباً فاصلة ستقع بين المسلمين واليهود وسيكون النصر فيها للمسلمين.
2- الإيمان بأن الأيام دول، وأن تدارك ما فاتنا ممكن إذا تحلينا بالعزم واتخاذ الوسائل الكفيلة بالانتصار.
3- توحيد قيادة المعركة وتسليمها لأيد أمينة مخلصة.
4- بذل قصارى الجهد في التذكير بقضية فلسطين، وتدريسها في المدارس والجامعات.
5- الوقوف من الدول التي ناصرت الصهيونية موقفاً قوياً حاسماً، واستعمال الأسلحة المتنوعة في صرفها عن مناصرتها الباطلة لليهود.
6- العمل على تقوية الفدائيين الفلسطينيين من كل النواحي، واختيارهم من العناصر المأمونة والمؤمنة بربها ودينها ووطنها، وإمدادهم بما يجعلهم يستطيعون أن يزلزوا كيان الصهيونيين عن طريق حرب العصابات.
7- خوض معركة فلسطين المقبلة على أساس من الجهاد الديني لأن فلسطين بلد إسلامي مقدس، وهي ملك لجميع المسلمين، وواجب الذود عنها فرض على كل مسلم على وجه الأرض.
أما بعد كل ذلك:
فإن الكتاب، الذي أشير باختصار إلى مسائل منه كان كتابة الشيخ محمد سيد طنطاوي قبل خمس وأربعين سنة هجرية. وحين كتبه كان سعياً منه للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر، الذي شاء الله أن يكون المُتربِّع على كرسي مشيخته الآن. ومن أراد أن يتأمل كما فعلت فقراءته للكتاب نفسه ستكون أكثر نفعاً. اللهم ثَبِّت قلوبنا على الحق.