حان الوقت من أجل مواجهة استغلال الدين في الأغراض السياسية، فالاضطرابات التي تواجهها المجتمعات العربية والإسلامية أشبه بسلسلة من الانشقاقات التي لا تتوقف، فعلى سبيل المثال ما يحدث من انشقاق منذ ظهور الدعوة السلفية في العصر الحديث يدل على أن الانقسام إحدى طبائع التاريخ الإسلامي، فالانشقاق وخروج فئات وأفكار أكثر تساهلاً أو تطرفاً من رحم الفكرة الأم كان وما زال قدر المجتمع العربي والمسلم..
انشق المسلمون بعد سنوات من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتحولت اختلافاتهم مع مرور الزمن إلى عقائد و طوائف تتقاتل في ساحات المعارك على أصول الدين وعلى أغراض السياسة، وظلت بعد ذلك وتيرة الانشقاق سمة متلازمة مع دورات التاريخ الإسلامي المتعاقبة، فظهرت عقيدة المتغلب الذي يجب أن يُطاع على أي حال، والإمام الذي لا يخطئ، لكنه يتقي ظلم الغالب بطاعته في الدنيا إلى أن يخرج المهدي لينتقم للمظلوم من الظالم، ثم خرجت على المسلمين عقيدة الأئمة المستورين، والتي تخفي في باطنها أكثر ما تظهر...
في التاريخ الإسلامي خرجت أعداد لا حصر لها من الفرق والمذاهب والطوائف، وأكاد أجزم أن هذه الأفكار لن تتوقف عن الانشقاق، وستستمر في الخروج من فترة إلى أخرى، وستكون دوماً بمثابة الشرارة التي تندلع من أطرافها الحروب والفتن، مالم يضع المجتهدون والمفكرون في هذه الأمة حدا لذلك، ولكي يحدث ذلك لابد من إخراج الفتوى من دوائر السياسة، وإدخالها في إطار الرأي العام، ولكي نصل إلى تلك المرحلة يُفترض أن يتم إخراج استغلال الدين في صراعات الحياة المدنية، وفي شن الحروب، وتصدير الفتن والقلاقل، ولعل تكرار دورات التاريخ العربي دليل على اختلاف أنساقه عن أنساق المجتمع الغربي، والذي يسير في شكل تصاعدي في سلم الحضارة الإنسانية، ففي تاريحنا يحكم نص المسلمين و تتقاتل النصوص ضد النصوص، وتتم المزايدة عليها في ساحات القتال....
فالعباسيون رفعوا نص (لا وصية لوارث) لإخراج نسل الإمام علي كرم الله وجه من إرث خلافة المسلمين، والخوارج من قبلهم استباحوا دم الإمام علي ومعاوية وعمرو بن العاص عندما رفعوا الآية الكريمة(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا)، ورفع شيعة الإمام علي حديث غدير خم من أجل قتال الأمويين، كذلك تم استغلال حديث (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب) في تفجير المجتمع الآمن من أجل قضايا سياسية، والأمثلة على ذلك لا يمكن حصرها في هذه العجالة لكن الخلاصة أنهم يشتركون غالباً في النهاية التاريخية، وهي الحكم من خلال آلية الاستبداد التاريخية، والتي عندما تشيخ مع مرور الوقت يحدث انشقاق آخر،.. وهكذا يسير التاريخ العربي الإسلامي في دورات متشابهة..
قد يأتي الحل إذا أدرك العلماء أولاً أن الفقهاء في التاريخ الإسلامي فشلوا في وضع أرضية للفقه السياسي، أو لتنظيم العملية السياسية، فقد تحدثوا في تفاصيل حياة الإنسان، ولم يبذلوا شيئا من الجهد العلمي في إرساء قواعد للآلية السياسية في المجتمع المسلم، ماعدا أبن تيمية، الذي بذل جهداً في محاولة وضع فصول للسياسة الشرعية، لكن طرحه تميز بإرساء أحكام الهدنة الشرعية، والتي تدين للحاكم بالطاعة، ولكن في نفس الوقت تشرع للقوى الأخرى للخروج إذا توافرت لهم القوة، وهو ما يجعل من المجتمع يعيش في مهب ريح الغلبة والخروج المتوقع حدوثه من قواعده السرية في مراحل الدولة العمرية المتقدمة..
كذلك إذا أدرك العلماء أن يخرجوا عن دوائر تبرير القرارات السياسية، ولعل أقرب الأمثلة تلك الفتاوي التي خرجت تُجيز وتؤيد قرارا سياسيا لبناء جدار عازل بين غزة ومصر..!، ستكون الصورة في غاية البؤس إذا صدقنا أن الفتوى تمثل حكم الله سبحانه وتعالى في هذه القضية الإنسانية، وهل يُعقل أن يحكم الله بإقامة جدار عازل ضد الأبرياء العزل في غزة العربية..
تمثل هذه الفتاوي مثالاً صارخاً على إقحام الدين في المصالح السياسية، مما يزيد من التطرف والانشقاق، عندما تؤدي تلك الفتوى إلى ردة فعل في الجهة المقابلة، وإلى إصدار فتاو جديدة، ومضادة لها..،.. أخيراً رحم الله الإمام أباحنيفة النعمان، والذي رفض أن يعمل في منصب قاضي القضاة تحت إمرة الدولة العباسية، فالقضاء والاجتهاد الشرعي يجب أن يحظيا بالاستقلال التام عن أغراض السياسة، وأن يلتزما بالمنهج العلمي، وألا يدخلا في معمعة الصراعات السياسية، وأن يخرجا من الفردية والمصالح الشخصية، ومن إطلاق الفتاوي من داخل الغرف الإعلامية أو السرية..