كنتُ قد تساءلتُ قبل نحو أربعين عاماً تقريباً - عبر ورقة عمل أعددتها للقراءة في مؤتمر إداري كبير عُقد خارج المملكة - تساءلتُ عما إذا كانت المؤسسةُ العامة عوناً للدولة أم بديلاً لها؟ واستعرضت في هذا الصدد ظاهرة (المؤسسة العامة) في الدولة الحديثة، ولم أكن في حاجة إلى بلاغة شاعر ولا بيان أديب لأُدلّلَ على أن هذا النمط من أنماط التعامل مع بعض مناشط حراكنا الإداري، وُجدَ في الأصل لغاية لها ما يسندها نظريةً وتطبيقاً.
-لكنني جادلتُ في الوقت نفسه أن الغلوَّ في اللجُوء إلى هذا الأسلوب الإداري يبدو أحياناً كأنه خيار (للتحايل) على النظم واللوائح والضوابط المقننة لهذه المصالح أو تلك ابتغاء (المرونة) في تصريف الأمور وتكريساً لها.. وتلك مسألةٌ فيها نظر.
-وقد انتهيت إلى أنه يتعيّن على مَنْ بأيديهم الحلُّ والعقدُ إدارياً في بلادنا أن يعالجوا العوائقَ المؤثرةَ سلباً في العمل الإداري، وذلك بتقويم وتعديل النظم واللوائح المعنية، بدلاً من التماس وسائلِ الفرار منها إلى ما يُعتقد أنه فضاء (المؤسسة العامة) الرحب: حريةً في القرار، ومرونةً في الحركة، وسرعةً في الإنجاز؛ أملاً في بلوغ نتائجَ أفضل!
- وأشرتُ كذلك إلى أن من بين المفارقات الملموسة في أداء بعض تلك المؤسسات العامة أنها لم تنجُ في بعض التطبيقات من سطوة التقنين المعقد، وبسببه سلكت دربَ (الهجرة) فراراً منه، ومن ثم، فإن أداء بعضها لم يختلف كثيراً عما كان معهوداً خلال فترة ما قبل (الهجرة) إلى (واحة المؤسسات).
- وأعزو ذلك إلى أكثر من سبب، من بينها أن بعضَ مَن تولوا أمرَ هذه المؤسسة أو تلك هم في الحقيقة (ورثة) التطبيقات الإدارية السابقة إنْ لم يكونوا من بين منظريها وصانعيها والقائمين عليها، بحيث بدا نموذج (المؤسسة العامة).. وكأنه يرمزُ أحياناً إلى (تغيير) في المظهر، وليس (تطويراً) في آلية التشغيل ومضمون الأداء!
- نعم.. نشأت فكرة (المؤسسة العامة) في يوم من الأيام استجابةً لظرف ما، وأحسبُ يقيناً أن المسوِّغ لذلك ما برح قائماً، وكان أهم مبرر لقيامها هو أن هناك مواقفَ معينةً، والاقتصادية منها خاصة، يحسن أن تدارَ بأسلوب يختلف عن الأنماط الإدارية التقليدية للدولة، مثل صناديق الإقراض العام وبعض المشروعات الاقتصادية وشبه الاقتصادية مثل (صوامع الغلال، تحلية المياه، التأمينات الاجتماعية) ونحو ذلك.
- وانطلاقاً من ذلك، فإن خيار (المؤسسة العامة) خيار باق طالما اقترن الغرض منه بالمهمة التي تؤديها المؤسسة؛ مما يوجبُ منحَها قدراً من المرونة الإدارية والإجرائية اللازمة؛ خدمةً لمهمتها، وتيسيراً لها، أما أن تصبح (المرونة الإدارية) هدفاً يُبْتَغي لذاته، ومن أجله يُحوّل نشاط ما إلى (مؤسسة عامة) بعيداً عن هوية المهمة التي تباشرها؛ فأمر لا أرى فيه مصلحة ولا جدوى، وإذا كانت العلةُ من إنشاء مؤسسة عامة لغرض ما هي البحث عن المرونة الإدارية (فراراً) من تعقيدات الإدارة الحكومية وإجراءاتها، فلماذا لا تطور الإدارة الحكومية نفسها، مرونةً وأدواتٍ وأداءً، وصولاً إلى الغاية ذاتها؟!