Al Jazirah NewsPaper Sunday  10/01/2010 G Issue 13618
الأحد 24 محرم 1431   العدد  13618
 
هذرلوجيا
أزمة الشعر (عالمياً!!)
سليمان الفليح

 

حينما بدأت الإرهاصات (التجريبية) الأولى لحديث الشعر العربي في أواخر الأربعينات الميلادية من القرن المنصرم على أيدي شعراء كبار انطلقوا من العراق مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وغامروا بتقديم هذا اللون الجديد من الشعر الذي تخلص من هيمنة العمود واحتفظ بالإيقاع التفعيلي والقافية الداخلية انقسم جمهور الشعر إلى صفين أحدهما أيد التجربة واعتبرها أحد أشكال التحديث العام الذي كان ينادي به مثقفو وسياسيو ومفكرو تلك المرحلة لاسيما وأن موضوعاته كانت تتعلق بالتطور والتحرر والاستقلال واستشراف المستقبل لذلك أسماه الصف الأول الشعر الحر بينما أسماه الصف المعارض (النثر المشعور) كناية عن السخرية منه وانتصاراً للشعر التقليدي وتمسكاً (بالعمود) خوفاً على الشعر العربي من السقوط بينما وقف صف (توفيقي موارب) لا مع أولئك كلياً ولا مع هؤلاء وأسموه الشعر المنثور أو المرسل، ولكن كل تلك التسميات لم ترسخ لأن الجمهور الذي اقتنع بفاعليته أسماه (الشعر الحديث) وراح يصفق له لما يطرحه من قضايا ماثلة وملحّة في ذلك الزمان. ثم جاء رواد تطوير جدد من لبنان وخلصوا ذلك الشعر من القافية الداخلية والإيقاع التفعيلي -إلى حد ما- والاكتفاء بالموسيقى الداخلية أو (الكامنة) ونعني بأولئك الرواد أعضاء مجلة شعر مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس الذين تألقوا إعلامياً في نهاية الخمسينات الميلادية ومن هنا اندمج مؤيدو المحدثين الأوائل مع مؤيدي المطورين الجدد وأصبح الشاعر يكتب من (حيث الشكل) بالطريقة التي تلائمه ولكن ضمن ضوابط لغوية لا خلاف عليها لذلك ازدهر الشعر الحديث أيما ازدهار في فترة الستينات الميلادية وكان له دوره الفاعل والمؤثر في القارئ العربي وأصبح له رواده المحليين في كل قطر عربي إلى أن كاد يخفي تماماً الشعر التقليدي (العامودي) من على صفحات المجلات والصحف العربية.

وحينما حلّت نكسة (67) المشؤومة تحول الشعر العربي الحديث إلى شعر تشاؤمي، سوداوي، تبكيتي يعتمد على جلد الذات وشتيمة النظام السياسي العربي -الذي رأى فيه المسؤول الأول عن هذه الكارثة التاريخية (الهزيمة)- وبالطبع كان على النظام السياسي أن يقمع هذا الشعر الذي ينال من قبضته الحديدية ف(زج) بالمئات من شعراء السبعينات في السجون مما ألجأ شعراء تلك الفترة قاطبة إلى اللجوء إلى الرمزية الموغلة في القتامة لتلافي الأذى أولاً والإيصال المتاح من النَفَس إلى المتاح من آذان المُتلقين. وهذه الحالة ويا للأسف الشديد قد أتاحت مجالاً للمدعين على حساب المبدعين لمجرد الحصول على صفة النضالية (الملتبسة) في ذلك الوقت مهما كانت القيمة الشعرية ولذلك انفتح الباب شاسعاً لشعر هلامي أفقد الشعر العربي الفصيح - الحديث تحديداً- قيمته الحقيقية وأصبح مطية لكل من هب ودب. لذلك جاءت مرحلة الثمانينات الميلادية طافحة ب(الواغش الشعري) الذي ليس فيه من الشعر شيئاً (إلا القليل القليل) اللهم إلا طريقة (صفّه) على الصفحات الثقافية التي تشبه طريقة صف الشعر الحديث والذي لم يبقَ منه إلا مفردات مفرغة من (المعنى والدلالة والنبض والترابط والإيحاء) ولكنها تتدافع بلا انتظام في ثنايا الهيكل العظمي للنص وعلى واجهات الصفحات. وبالطبع هذه الكارثة الشعرية أدت إلى انطواء الشعراء الحقيقيين وعزوفهم عن النشر في هكذا غوغاء شعرية لا تشبه إلا طنين ذباب المستنقع يحركها بعض الجهلة الذين جاء بهم الخواء الثقافي لتسنّم المنابر الثقافي في بعض الصحف. وهذه الحالة إجمالاً أدت إلى الانصراف الكلي لجمهور الشعر إلى البحث عن شعر يعبّر عن مشاعره وينطق بلسان حاله فوجده بشعراء لهجته اليومية أي الشعراء الشعبيين وسنكمل لاحقاً.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد