Al Jazirah NewsPaper Sunday  10/01/2010 G Issue 13618
الأحد 24 محرم 1431   العدد  13618
 
متى يكون النشر (إيجابياً)..ومتى يكون سلبياً..؟
د. عبد الله مناع

 

كنت أتمنى لو أن (الهيئة) أخذت ب(رأي) أحد مسؤوليها الأذكياء المدركين للآثار السلبية التي يمكن أن يحدثها نشر تقريرها - أو إحصائها السنوي - عن أعمالها خلال العام المنصرم.. بين هيئات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية..

المتربصة ب(المملكة)، ربما بأضعاف ما تتوخاه (الهيئة) من آثار إيجابية بين طبقات المجتمع وفئاته. فقد رأى ذلك المسؤول - الذي فضل عدم ذكر اسمه - ب(عدم وجوب نشر هذا التقرير)، وقد كان على حق.. لأنه - وكما قال - (يوحي بأن أعداد الوقائع المشمولة فيه أكبر مما هو متوقع، وهو ما يعكس انطباعاً عاماً بأن الهيئة تبالغ في ملاحقة الناس)..!!

كما كنت أتمنى لو أن مدير العلاقات العامة بالرئاسة العامة ل(الهيئة)، والمتحدث الرسمي باسمها: الدكتور عبدالمحسن بن عبدالرحمن القفاري.. قد ثبت عند رأيه (الإداري) الذي أفصح عنه مشكوراً ب(أن الدليل الإحصائي.. لا يُعد من أجل النشر في وسائل الإعلام، ولكنه من أجل رفعه لمجلس الوزراء والمقام السامي ومجلس الشورى).

ومع ذلك نُشر (التقرير).. رغم نصيحة (المسؤول) وتحفظ (العلاقات العامة) على نشره إدارياً ونظامياً.. ففاجأ من فاجأ، وأحبط من أحبط، وأرضى من أرضى، واستفظعته دون شك أكثرية اعتادت أن تتهامس في مثل هذه القضايا دون أن تجرؤ على البوح برأيها الحقيقي. فماذا قال (التقرير)... في (عنوانه) و(متنه)..؟

قال في عنوانه الرئيسي البارع الذي أرادت الصحيفة أن تسوغ به نشر التقرير.. من جانب، وأن ترضي به (الهيئة).. على الجانب الآخر: (الهيئة تنهي 225 ألف قضية بالتعهد والمناصحة خلال عام)..!! وهو ما يعني ضمنياً (وهذه هي.. البشرى التي تصورها نشر التقرير) بأن (الهيئة) في عهدها الجديد قد تغيرت وتبدلت، وأنها عادت إلى الأخذ بمبدأ الحكمة والموعظة الحسنة في أدائها.. اتفاقاً مع النص القرآني الكريم: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).. رغم الضخامة الملفتة في أعداد تلك القضايا التي تم إنهاؤها ب(المناصحة) وأخذ (التعهدات) على أصحابها وصاحباتها، إذا سلمنا بقول القائلين في تبرير هذه (الضخامة).. بأن (التقرير) - أو الإحصاء - إنما يتحدث عن (المملكة) بإماراتها الثلاث عشرة وما تعج به من مدن كبرى وصغرى وقرى لا حصر لها، ولا يتحدث عن منطقة أو منطقتين أو ثلاث بعينها، إلا أنه يبقى السؤال: كم هو عدد هؤلاء الأفراد الذين كانوا أطرافاً في هذه ال(225) ألف قضية..؟!

وللحق، وللأمانة.. لم يبخل (التقرير) في متنه ونصه في الكشف عن أعداد أطرافها.. عندما قال: (بلغ عدد أطرافها 225 ألفاً و869 شخصاً) و(بنسبة 90%) من إجمالي القضايا)، أما ال10% المتبقية من القضايا.. فقد كشف (التقرير عنها) ب(شفافية) مدهشة، وربما غير مطلوبة في هذا المقام.. عندما قال بأنها تتمثل في (25 ألفاً و861 قضية)، وأنه (أحيل أطرافها البالغ عددهم 55 ألفاً و861 شخصاً لجهات الاختصاص بما نسبته 10% من إجمالي الوقوعات)، وهو ما يعني أن (الهيئة) قامت (من خلال مراكزها الميدانية المنتشرة في مختلف محافظات ومناطق المملكة بضبط 251 ألفاً و682 واقعة.. خلال عام واحد)!!؟ كما نص على ذلك تقريرها، المقلق والمربك والمؤسف في أرقامه على كل المستويات، والتي استهولها (حتى) ذلك المسؤول في الهيئة.. الذي فضل عدم ذكر اسمه - عندما قال بأنها (تعكس انطباعاًَ عاماً بأن الهيئة تبالغ في ملاحقة الناس) - وهو يضع يده على واحد من أهم سلبيات نشر هذا التقرير المفزع..!!

وإذا كان تقرير (الهيئة) قد انصب فيما بعد على نواحي تطويرها ب(إعادة تقييم لأنظمتها، وتحديث لبعض هذه الأنظمة، وإضافة أنظمة جديدة) فإن ذلك مما يهم الإدارة ويعنيها في المقام الأول والأخير.. ولا يعني (الرأي العام) في الداخل كثيراً.. إذ إن الذي يعني هذا الرأي العام، ويهم المواطنين والمقيمين حقيقة.. هو أداء الهيئة في الشوارع والمراكز والأسواق والشواطئ: هو رقي خطابها، وإنسانية تعاملها، وتلك المودة المفتقدة في تعاطيها مع الناس.. التي حض عليها ديننا الحنيف، لكن تبقى الإشارة التي وردت في نهاية التقرير حتى وإن كانت دون تفاصيل مشبعة ب(أن الهيئة تقوم بقياس اتجاهات الرأي العام لتحسين أداء منسوبيها).. هي مما قد يحمد نشره من هذا (التقرير) أو (الإحصاء).. الذي عارض نشره بداية الدكتور القفاري نفسه - وهو على حق.. كما قلت - باعتباره ليس مخصصاً للنشر في (وسائل الإعلام).. بل لرفعه للجهات الرسمية التي ذكرها وذكرتها - فيما سبق -، ولكن يبدو أنه عاد عن رأيه فيما بعد.. وسلم التقرير لمحرريْ صحيفة (الوطن) 17-1-1431ه اللذان لحقاه بأكثر من سؤال، إلا أن الذي يهمني منها في هذا المقال هو سؤالهما الجميل - وقد أغراهما على ما يبدو ما جاء في التقرير من أن 90% من تلك الآلاف من القضايا قد تم إنهاؤها ب(المناصحة) و(التعهدات) - عندما قالا له: هل يعني هذا أن تلك (النسبة الضئيلة من المشمولين في الإحصاء الذين تم تحويلهم إلى جهات الاختصاص.. أن الهيئة صارت أقل تشدداً في معالجتها لقضايا المخالفات)..؟ ف(صدمتهما) بإجابته البعيدة كل البعد عن سؤالهما، عندما قال لهما ب(إن كلمة أقل أو أكثر تشدداً هو مصطلح غير صحيح، وبالنسبة للهيئة فهي مثل كل جهاز حكومي خاضعة للتطوير والتغيير وتحديث الأنظمة)!! إذ إن سؤالهما.. كان عن (تشدد الهيئة) الذي أصبح أقل مما كان عليه.. بينما كانت إجابته عن (تطور الهيئة) عما كانت عليه!! فكانت إجابته.. مما يمكن أن يحسب عليه لا (له) وهو رجل العلاقات العامة الأول ب(الهيئة) والمتحدث الرسمي باسمها.

لقد احترت - فعلاً -، فالمعروف في (الإعلام).. بأن ل(النشر) بصفة عامة هدف وغاية، سواء أكان المنشور كتاباً أو مقالة أو قصيدة أو خبراً من خمسة أسطر أو (كاريكاتيراً) بدون تعليق، وأن له مع ذلك.. وجهين: إيجابي وسلبي..؟!

وأن نشر بعض مواده من الأخبار والتقارير والتعليقات بل وحتى (القفشات).. قد يكون سلبياً تماماً، كما أن نشر ذات المواد قد يكون إيجابياً تماماً.. بينما يجمع نشر بعض المواد بين الأمرين (معاً): السلب والإيجاب، وعلى صاحب القرار في النشر أن يوازن بين سلبية نشر المادة المطلوب نشرها.. وبين إيجابيته، وأن يتخذ قراره بعد ذلك إما بالنشر، أو التأجيل، أو إلغاء نشر تلك المادة وإلى الأبد.. على أن (توقيت) النشر أو عدمه يظل حاكماً وحاسماً في كل الأحوال. فما كان يصح نشره في الأمس البعيد.. قد لا يصح نشره في الأمس القريب، وما كان يصح نشره في الأمس القريب قد لا يصح نشره اليوم.. تبعاً لعصف المتغيرات وحدتها..؟!

في ضوء هذه (المعرفة) المتواضعة التي لم تعد حكراً على أحد.. بل مشاعة بين الكثيرين ومتاحة للأغلبية من الناس، يتوجب عليَّ أن أزيح الستار عن سؤالي الغائم أو الغائب حيناً والظاهر حيناً آخر: عن الهدف أو الغاية من وراء نشر هذا التقرير أو هذا الإحصاء؟ فهل كان نشره تعبيراً عن الفرح بإنجازات (الهيئة) وسعادتها بنجاحها في إجراء تلك الآلاف المؤلفة من (المناصحات): طلباً لرضا معالي الرئيس الشيخ عبدالعزيز بن حمين الذي قدم إلى (الهيئة) بفكر جديد ولغة جديدة وتناول جديد - يعتمد الاعتدال وتغليب حسن الظن في تناول هذه القضايا الدينية في أقلها، والسلوكية، والقيمية في معظمها -، وتأكيداً لفضيلته.. بتجاوب العاملين في الهيئة مع فكره ونهجه الجديدين..؟ أم أنه كان يهدف لإشاعة الطمأنينة بين الناس (من المواطنين والمقيمين).. بأن الهيئة لم تعد على تلك الخشونة التي كانت عليها (وإن كانت إجابة الدكتور القفاري.. لا تصب في هذا الاتجاه)، وأن عهداً جديداً قد بدأت تظهر آثاره على أرض الواقع مع الرئاسة الجديدة.. الخيِّرة والبناءة للهيئة..؟

إن كان هذا أو ذاك.. فإنهما وبكل أسف لا يقللان من فداحة تأثير الأرقام المفزعة التي طرحها التقرير - أو الإحصاء السنوي - على (الداخل) وفي (الخارج)..!

ففي (الداخل).. وبين المواطنين والمقيمين جميعاً، فإنني أتصور حجم (الإحباط) والاستغراب والدهشة، التي ستلقي بظلالها على نفوسهم وقلوبهم وعقولهم.. وهم يتساءلون في تعجب:

أهكذا نحن..؟ أنحن بهذا القدر من السوء.. ونحن في بلد الإسلام، وتحت راية الشريعة، وبين أحضاننا أرض الحرمين الشريفين؟! ألم يشفع لنا التزامنا وصلاتنا وصيامنا.. حتى تخف هذه الأرقام من مئات الآلاف.. إلى عشراتها على الأقل..؟

أمعقول أن تزيد مخالفاتنا التي أحصاها هذا التقرير عن ربع مليون مخالفة في العام..؟

أما سلبية ما سيحدثه نشر هذا التقرير - أو الإحصاء - في الخارج وبين هيئات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية بصفة عامة.. ومجلس حقوق الإنسان في (جنيف) - والذي نتمتع بعضويته - بصفة خاصة.. فحدِّث ولا حرج، إذ يصل التقرير إلى (مجلس حقوق الإنسان) في موعده (تماماً).. وقبل دورتيه القادمتين في شهري مارس وسبتمبر، ليكون أفضل مادة لمزيد من اللغط ب(الصدق)، و(الادعاء) قليلاً، وب(سوء الفهم) كثيراً.. بين أعضائه، واسألوا أخي الدكتور زيد الحسين نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان.. عن معاناته في المجلس وبين أعضائه في الصيف الماضي أو الذي قبله.

ليته لم ينشر..

وليته أُخذ برأي ذلك المسؤول الذي فضل عدم ذكر اسمه، وليت الدكتور القفاري قد دعَّم قوله ب(عمله) وبعث بالتقرير - أو الإحصاء - إلى جهات الاختصاص العليا، ولم يدفع به إلى (النشر). إذ إذن سلبيات نشر هذا التقرير - أو الإحصاء - أوضح وأخطر بكثير من إيجابياته القليلة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد