لا تعنيني هنا الكرة؛ ولا يعنيني الكرويون وما يكوِّرون. كما أني لن أتحدث عن اللعب، ولا عن اللاعبين وما يلعبون. سوف أتحدث تحديداً، عن (حالة يابانية) فريدة، أو لنقل: عن درس ياباني أخلاقي وإنساني ضائع ...
... لم نستوعبه أو نفهمه على ما يبدو، مع أنه جاء بخطوط عريضة، وبوسائل إيضاح مصورة ومكبرة ومجسمة ومتحركة أيضاً.
* استمتعت قبل عدة أسابيع مضت، بمشاهدة مباراة كروية في سباق بطولة الأندية الآسيوية. المباراة جمعت بين فريق (الاتحاد السعودي)، وفريق (ناغويا الياباني)، وجرت في اليابان، وكسبها الاتحاد بهدفين مقابل هدف واحد، وسط جمهور ياباني أقل ما يقال عنه؛ إنه: (خلوق، ومهذب، ومحترم للغاية).
* وكنت قد استمتعت - وصفقت ثماني مرات - وأنا أشاهد مباراة الذهاب بين الفريقين (الاتحاد السعودي)، و(ناغويا الياباني) في جدة، وهي التي سبقت مباراة الإياب في اليابان. تابعت المباراتين، وصفقت للأهداف جميعها الاتحادية والناغوية، فأنا لا أشجع لا الاتحاد، ولا الأهلي، ولا الهلال، ولا النصر، ولا حتى عكاظ ولا وج في الطائف، ولكني منذ سنوات طويلة، وأنا (منتخباوي متعصب)، حتى مع نكسات المنتخبات الوطنية، وهبوط مستواها، وخساراتها المتوالية، سوف أظل (منتخباوياً) حتى العظم. والفضل في انحيازي هذا للمنتخب الوطني دون أي فريق، يعود إلى (شونة غليظة) من مشجع اتحادي، هوت على قمة رأسي ذات يوم قبل سنوات مضت، فأبانت لي الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وأرتني الطريق الصحيح، وأعادت إلي رشدي الكروي، ولهذا قصة طريفة، سوف أرويها لكم، بعد فراغي من حكاية الدرس الياباني. هذا درس آخر، ولكنه شخصي..!!
* كان الدرس من اليابان، وكان المدرس من اليابان، وكان الميدان في ديار العُربان، ولكن أين هم أولئك الذين (يُفترض) أنهم فهموا هذا الدرس العظيم، الذي جاء إلينا من أمة خسفت بها القنابل الذرية قبل ستة عقود، فقامت من خسفتها تلك؛ لتقود - ليس العالم المتخلف فقط - بل العالم الذي رماها بهذا السلاح المدمر ذات يوم..؟!
* هل شاهدتم مجريات المباراة الكروية، التي جمعت فريق الاتحاد السعودي، وفريق ناغويا الياباني في جدة..؟
* لا أسألكم عن المستديرة وأهدافها الثمانية، ولا عن اللاعبين وحكام المباراة. أسألكم عن جمهور الاتحاد، وجمهور ناغويا.
* لو كنتم دققتم في سلوك الجماهير الاتحادية، وسلوك الجماهير الناغوية، وخاصة بعد نهاية المباراة، لوقفتم على الدرس الياباني الذي ضاع في غمرة الانتصار الكروي الذي تحقق للاتحاد.
* الجمهور الاتحادي - وكما هي عادة جماهيرنا العربية كافة - خرج من المدرجات، بعد أن خلف وراءه أكواماً من علب المشروبات والمناديل والأحذية المقطعة وغيرها.. هذا وهو فريق منتصر، فلو كان هو الفريق المغلوب، لانتقلت هذه المخلفات إلى جنبات الملعب، هذا إن لم تهو على رءوس لاعبي الفريق المنافس، ورءوس حكام المباراة المتواطئين مع الفريق المنتصر..!
* ماذا فعل الجمهور الياباني يا ترى، وهو الذي شهد هزيمة نكراء لفريقه قوامها ستة أهداف مرة واحدة..؟
* لقد شاهدنا هذا الجمهور المهزوم فريقه، وهو ينحني بكل أدب، ليلتقط كل ما هو على مقاعده وتحت أرجله من مخلفات وعلب فارغة وأكياس ومناديل وغيرها، ويجمعها في أكياس للنفايات جاء بها لهذا الغرض، ليخرج من الملعب بكل هذا، ويترك مقاعده نظيفة عفيفة كما وجدها لحظة دخوله..! لكأني بهذا الجمهور المهذب، وهو يترجم بهذا السلوك الراقي، المثل الياباني الذي يقول: (نتعلم قليلاً في الانتصار، وكثيراً في الانكسار).
* الشيء نفسه حدث في ملعب هذا الجمهور باليابان.. هُزم ناغويا مرة أخرى من خصمه، والجمهور الياباني هناك كثرة وفي وطنه وبين أهله، لكنه لم يسب ولم يشتم خصمه، ولم يقذف اللاعبين بعلب المشروبات والأحذية، وحافظ على سلوكه ونظافة ملعبه.
* عندما وصل فريق الاتحاد إلى اليابان، لم يرشقه اليابانيون بالحجارة، بدليل أنّا لم نشاهد لاعباً اتحادياً واحداً يلعب مباراة الإياب وهو معصوب الرأس، وإنما استقبل اليابانيون ضيوفهم بالورود وهم ينحنون تقديراً لهم، وعندما هُزم فريقهم في عقر دارهم، لم يتول إعلامهم إشعال فتيل حرب عربية يابانية، وقد رأينا كيف نهض بهذه الوظيفة الجاهلية، إعلام مصر والجزائر، ليتحول لقاء كروي بين فريقين عربيين شقيقين، إلى مواجهة حربية بين (الفراعنة) و (ثعالب الصحراء)، فتستخدم الحجارة والمطاوي، وتُداس الأعلام، وتُستهدف السفارات، ويُستدعى السفراء، وتُعلق الهجائيات على الفضائيات..! لو أنا فهمنا درس اليابان، لوقفنا على حكمة يابانية تلامس حالة كهذه تقول: (عند الأعمى.. جميع الألوان تتشابه).
* ألم أقل لكم بأنه درس ياباني أخلاقي وإنساني ضائع..؟
* أما الدرس الذي تلقيته - أنا شخصياً - من جماهير الاتحاد، فهو لم يضع والحمد لله، وقد حفظته وفهمته وأفادني كثيراً، ذلك أني لم أدخل ملعب كرة قدم بعده أبداً.. كان ذلك قبل ثلاثة عقود ونيف، عندما غرر بي زميل وصديق لم أعرف أنه اتحادي متعصب إلا في ذلك اليوم المشئوم، فقد كنا في جدة يوم خميس، ووجدته يستحثني للذهاب إلى ملعب الصبان، لمشاهدة مباراة تقام هناك بين فريقي الأهلي والإتحاد، وقد ذهبت معه، وابتعنا عند بوابة الدخول؛ فصفصاً كما في لغة الشيخ عايض القرني، أو فسفساً كما في لغة أستاذ لغة سابق لنا أيام الطلب، وجلسنا وسط جمهور هائج في المدرج، وأنا وقتها لا أفرق بين فريق الاتحاد وفريق الأهلي؛ عوضاً عن تفريقي بين جمهور هذا الفريق أو ذاك، وهذا لفرط جهلي بالكرة وقتها. وما هي إلا دقائق قليلة، حتى بدأت المباراة بين الفريقين، فعلا صوت المشجعين من مدرجنا والمدرج المقابل، وبين انشغالي بفسفسة أو فصفصة الفصفص، ومتابعتي لهجمات الفريقين، شاهدت الكرة تدخل في المرمى، فانتصبت واقفاً وصائحاً، مقلداً ما شاهدته في المدرج المقابل، ولكني لم أكد أستقر في مقعدي بعد هذه الوقفة المضرية، حتى استقبلت ضربة بشونة من خلفي أصابتني بالدوار، فاستدرت لأرى ما حدث، فاستقبلت سيلاً من الشتائم والسباب المقذعة، فبادر الزميل والصديق المغرِّر بي، لاحتواء الموقف المتفجر، والاعتذار لمن ضربني - يعتذر للضارب من سوء خلق المضروب..! وأني جاهل لا أعرف أصول التشجيع، لأن الهدف المسجل كان في مرمى الاتحاد، ونحن نجلس وسط جمهور الاتحاد، وأنا بذلك ارتكبت جنحة جرح مشاعر هذا الجمهور الغاضب من هذا الهدف المباغت.
* كان درساً وأي درس، لم يذهب هباءً، لأني ما زلت أطبقه بحذافيره، فلا أشجع فريقاً بعينه، ولا أدخل ملعب كرة قدم، ولا أجلس وسط جمهور هائج من المشجعين.
* أما الدرس الياباني الجميل، فإنه درس ضائع حتى اللحظة.
assahm@maktoob.com