الأدب هو جمال كل امرئ، بل عنوان سعادته، قال ابن القيم -رحمه الله- :(أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره).
لقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في غاية الأدب في مجلسه وحديثه وصمته، وقوله وفعله، يقبل بوجهه لمن يحدثه وينصت له، لا يصرف وجهه عمن يحدثه حتى يكون الرجل هو يصرفه، لم يرَ صلى الله عليه وسلم مقدماً ركبتيه بين جليس له حتى مع أشر القوم، يقبل بوجهه وحديثه يتألفهم بذلك، لقد علمنا رسولنا آداب المجالس في المحادثة، وعدم المقاطعة في الحوار، وحسن السؤال، والاحترام والإجلال للآخرين كل في منزلته، نكرم كريمهم، ونوقر كبيرهم، حيث أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار أن يقوموا لسيدهم سعد بن معاذ، فقال لهم: (قوموا لسيدكم) رواه البخاري.
ومن مظاهر الأدب احترام ذي الشيبة المسلم، بل هو من إجلال الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من جلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) رواه أبو داوود وقال الألباني حديث حسن.
أيها القراء: بعض شبابنا-وللأسف الشديد- يفتقد تلك المعاني والآداب في المجالس، فيبدأ في الحديث قبل أن يأذن له، فيأخذ ويعطي, ويجيب ويسأل وهو من أصغر الجالسين، ولذا بوّب الإمام البخاري في صحيحه (باب إكرام الكبير، ويبدأُ الأكبر بالكلام والسؤال)، ثم ذكر حديث بُشير بن يسار مولى الأنصار أن عبدالله بن سهل، ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر فتفرقا في النخل فقُتل عبدالله بن سهل، فجاء عبدالرحمن بن سهل، وحُويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبدالرحمن -وكان أصغر القوم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كبر الكُبرَ). قال يحيى: ليلي الكلام الأكبر. رواه البخاري.
وبعض شبابنا -هداهم الله- يتصدرون الفتاوى التي تطرح في المجالس، وفيها من هو أكبر منهم علماً وسناً، وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا تحت ورقها، فوقع في نفسي النخلة، فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر. فلما لم يتكلما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- هي النخلة. فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبتاه وقع في نفسي النخلة. قال: ما منعك أن تقولها ؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا. قال: ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما، فكرهت) رواه البخاري، قال ابن حجر: (وفيه توقير الكبير، وكأنه أشار بإيراده إلى أن تقديم الكبير حيث يقع التساوي، أما لو كان عند الصغير ما ليس عند الكبير فلا يمنع من الكلام بحضرة الكبير، لأن عمر تأسف حيث لم يتكلم ولده).
وآخرون يقاطعون الحديث؛ إما بسؤالٍ أو بحديث آخر، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كان جالساً في مجلس يحدث القوم، فجاءه أعرابي فقال متى الساعة ؟ فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: أين أراه السائل عن الساعة ؟ قال ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا َوُسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) رواه البخاري، قال ابن حجر رحمه الله: (يحتمل أنه أخره ليكمل الحديث الذي هو فيه).
ومن الأخطاء الواقعة في مجالسنا من ضعف في الأدب وخلل في التربية ما يفعله بعض الناس باستخدام جهاز الجوال فيرد على هاتفه الجوال ويترك محدثه، ومنهم من يشتغل بقراءة الرسائل الواردة إليه ويترك الإنصات لمحدثه، وكذا ما يفعله بعض المتعلمين من المثقفين والدعاة حيث يجيبون على أسئلة المتصلين ويقطعون الحديث ويتركون الإنصات لمن هو أمامهم، وقد يكون ضيفاً عندهم، وكأنه لا يوجد من يفتي للناس إلا هم، وقل كذلك في جهاز المحمول وكيف التعامل معه في المجالس.
ومن الأخطاء الواقعة في مجالسنا الكذب، فتجد بعض الإخوة يكذب في حديثه، فيروي قصة مكذوبة، أو مواقف لا حقيقة لها، ومنهم من يتحدث عن نفسه فيقول إني أملك كذا من المال، وحصل لي كذا وكذا وهو كاذب، وبعض الإخوة يخل في أدب المجالس فيمزح مزاحاً زائداً لا يليق بهذا المجلس، والواجب علينا أن نفرق بين المجالس والجالسين، فهناك مجالس عامة وخاصة، ومن الجليس من هو قريب وبعيد، وعالم وجاهل، وجمال كل امرئ بأدبه وأخلاقه، وحديثه وصمته، وحركته وسكونه، ودخوله وخروجه، وليس الجمال بالمسكن والملبس والمال والجاه وتصدر المجالس كما يظن بعضنا.
نعم أيها الإخوة، نحن بأشد الحاجة إلى الأدب والسمت وحسن الحديث، وإلقاء السلام، وغض البصر، وكف الأذى، وأن نجلس حيث ينتهي بنا المجلس، وألا نفرق بين اثنين إلا بإذنهما، وأن ننصت إلى حديث المتحدث ما لم يتحدث بإثم أو معصية، وإذا تكلمنا فلا نطيل حتى لا يمل الناس حديثنا. هذه جملة من آداب المجالس، وجمال المرء بأصغريه لسانه وقلبه، وكلي أمل أيها الإخوة الفضلاء أن نعلم أنفسنا وأولادنا الأدب وإن قل قبل كثير من العلم، قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: (نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم).
ولا ننس في مجالسنا ذكر الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة) رواه أبو داوود.
واختم مجلسك أخي الجالس بكفارة المجلس فقل: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) رواه أحمد.
اسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين لله في كل أحوالنا وفي مجالسنا.
* خطيب جامع ابن عثيمين بالخبر
Abohafz1@hotmail.com