خالجني شعور الحنين لأولئك الذين غابوا وعجزت عن مسحهم ابتداء من الذاكرة وانتهاء بأرقام جوالاتهم حينما قرأت كتاب أستاذنا القدير خالد المالك (عيناي تدمعان)، وهو الكتاب الوحيد الذي.. |
..طلبته من مؤلفه بعد معرفتي بصدوره وسماعي عن محتواه، ولم يصلني إهداؤه الذي كان إلى كل من مسه الجزع والأسى والحزن في حياته، وإلى كل مكلوم عاش لوعة الفراق مع من يحب، وإلى كل من دمعت عيناه وبكى كثيرا وطويلا تأثرا على من رحلوا من دنياهم ودنياه... فتجشمت عناء الطلب والحرص على ذلك المنال ربما ليقيني بنزف خالد الإنساني الذي عانى كثيرا من الرحيل ليواري في قلبه الصغير هذا الحجم الهائل بوفاء تجاه من أصبحوا نسيا منسيا تحت الجنادل والتراب، خالد الحزين بعينين تدمعان على والده الشيخ حمد وولده فهد وما بين الوالد والولد والأب والابن من مساحات واسعة تحتضن الحزن والحنين على الإخوة والقربى والأصدقاء، قال في مقدمته:»وهذا الكتاب هو عن حزني ودمعي وعاطفتي ومشاعري نحو من غابوا عن دنيانا وتركونا نبكي ونتألم إذ نعيش بقية حياتنا من دون أن نراهم أو نتحدث معهم أو نأنس بمجالستهم ... إنه باختصار عن بعض حزني وشيء من ألمي (وقفت كثيرا أمام عنوانه المختار بدقة فكلمة عيناي فيها من الدلالة على تعميم الحزن ما لايؤديه التعبير بكلمة عين واحدة وكلمة تدمعان فعل يدل على الاستمرارية والتجدد في الحزن والحنين دونما انقطاع بخلاف لو كان التعبير بكلمة دامعتان إذ الاسم يدل على الثبوت والجمود ولذلك جاء التعبير القرآني في قوله تعالى: (صافات ويقبضن) فعبر بالاسم صافات لأن الأصل في أجنحة الطيور الثبات وعبر بالفعل ويقبضن للدلالة على التجدد والاستمرار ولولا حركة الجناح ماحصل الطيران ...لاأدري لماذا خطرت ببالي وأنا أتصفح الكتاب أبيات الصمة القشيري: |
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني |
على كبدي من خشية أن تصدعا |
فليست عشيات الحمى برواجع |
عليك ولكن خل عينيك تدمعا |
وتذكرت أبيات سعيد عقل: |
ياطيب القلب ياقلبي تحملني |
هم الأحبة إن غابوا وإن حضروا |
قد غبت عنهم ومالي في الغياب يد |
أنا الجناح الذي يلهو به السفر |
ليس أحد منا إلا وبكى حبيبا أو قريبا أو صديقا،وربما كان قدر العرب المؤلم أنهم أكثر الشعوب تأثرا بالفقد والغياب والشاهد على ذلك مابين أيدينا من روايات وقصائد ومقالات، يكتبون خلجات نفوسهم بحبر أشبه بدمائهم التي تنزف حنينا حتى قال شاعرهم: |
أشوقا ولما تمض لي غير ليلة ... فكيف إذا سار المطي بنا عشرا |
وإن أعظم الشوق كان في صدور الصحابة تجاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد في السيرة أن ثوبان مولى الرسول الكريم كان شديد الحب له, قليل الصبر عنه. فأتاه ذات ليلة وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن. |
فقال له رسول الله: (يا ثوبان ما غير لونك؟) فقال: يارسول الله, مابي وجع, ولا ضر, غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك, واستوحشت وحشة شديدة, حتى ألقاك, ولولا أني أجيء, فأنظر إليك لظننت أن نفسي تخرج, ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك, لأني عرفت أنك مع النبيين, وأني إن دخلت الجنة, كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك, وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا, فيشق ذلك علي, وأحب أن أكون معك! فلم يرد عليه رسول الله شيئا, فأنزل الله عزوجل: (ومن يطع الله والرسول فألئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما)... |
وقفت كثيرا عند عبارته: (غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك, واستوحشت وحشة شديدة, حتى ألقاك, ولولا أني أجيء, فأنظر إليك لظننت أن نفسي تخرج).. وتكمن عظمة رسول الله وإنسانيته في إدراكه تغير لون مولاه، فكم ممن هم حولنا لم ندرك تغير ألوانهم ولم نسأل عن سر صداعهم المزمن ولم نلحظ شرودهم وتأملهم في كل موقف حتى أصبحت دموعهم يستثيرها المشهد والأغنية والمنظر في الشارع لنثبت أننا مصابون بعمى الألوان وأزمة الضمير، وليس أعظم من تغير لون ثوبان إلا صمت رسول الله الذي يحمل أسرار البلاغة وعبارات البيان، نعم الصمت كان أبلغ من كل حديث أمام شعور إنساني لايستحقه إلا رسول الله الذي أعطانا درسا أخلاقيا وسلوكا إنسانيا تأكيدا لقوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، سكوت يحمل بين طياته ما يعجز اللسان عن بيانه وهكذا تقف الأعضاء عاجزة من فرط الدهشة ووحشة الغياب...وهذه الوحشة عصرت فؤاد الخليفة عمر بن الخطاب في قصة رواها الشيخ عائض القرني في رحاب الاخوة فقد ورد أن عمر رضي الله عنه أنه لما صلى الفجر قال: أين معاذ ؟ قال: ها أنذا يا أمير المؤمنين. |
قال: تعال .. فتقدم له بين الصفوف فقال له لقد تذكرتك البارحة يامعاذ فبقيت أتقلب على فراشي حباً وشوقاً إليك فتعال، فتعانقا وتباكيا.... إن الحديث عن الموت والفراق أليم وموقف لايتحمله إلا من وهبه الله قوة وصبرا وتلك اللحظات عاش تفاصيلها الصحابة في أعظم موقف مر على الإنسانية جمعاء حزنا على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزاؤه أعظم عزاء فقد روي عن عائشة رضي الله عنها وغيرها من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض وارتفعت روحه وسجى رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة دهش الناس وطاشت عقولهم وأقحموا، واختلطوا، فمنهم من خبل ومنهم من أصمت ومنهم من أقعد إلى أرض فكان عمر ممن خبل وجعل يصيح ويحلف ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ممن أخرس عثمان بن عفان حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما، وكان ممن أقعد علي، رضي الله عنه فلم يستطع حراكا، وأما عبد الله بن أنيس، فأضني حتى مات كمدا، وبلغ الخبر أبا بكر رضي الله عنه وهو بالسنح فجاء وعيناه تهملان وزفراته تتردد في صدره وغصصه ترتفع كقطع الجرة وهو في ذلك رضوان الله عليه جلد العقل والمقالة حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكب عليه وكشف وجهه ومسحه وقبل جبينه وجعل يبكي، ويقول بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء ولو أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك ماء الشؤون ..فأما ما لا نستطيع نفيه فكمد وإدناف يتحالفان لا يبرحان اللهم أبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة اللهم أبلغ نبيك عنا، واحفظه فينا، ثم خرج لما قضى الناس غمراتهم وقام خطيبا فيهم بخطبة جلها الصلاة على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم ....كان الله في عون الصابرين والله من وراء القصد. |
|