Al Jazirah NewsPaper Tuesday  05/01/2010 G Issue 13613
الثلاثاء 19 محرم 1431   العدد  13613
 
الشر متجسداً
جيفري أ. انجل

 

لقد أصبحت المساواة بين الحرب والشر الفردي من الأمور الشائعة في دوائر السياسة الدولية المعاصرة في كل مكان تقريباً إن لم يكن على مستوى العالم أجمع. إن الحروب عبارة عن معارك ضد طغاة أشرار والحكومات غير الشرعية التي يسطرون عليها. إن مثل هذه اللغة الخطابية تجعل من اليسير تبرير الحروب، وشنها، ودعمها، وخاصة بالنسبة للزعماء المنتخبين الذين لابد وأن يردوا مباشرة على التقلبات في الرأي العام. ومثل هذه اللغة تعمل بصورة جيدة في أي مجتمع في عصرنا الحديث المهووس بالإعلام.

ونستطيع بسهولة إن نرى مدى تأثير لغة تشخيص الشر وتجسيده من خلال أمثلة أمريكية، ولكنها ليست بالظاهرة الأمريكية البحتة. فقادة الصين يحمِّلون قادة تايوان المسؤولية عن تصاعد التوترات عبر المضيق، ويحمِّلون الدلاي لاما المسؤولية عن كل العلل التي تعاني منها منطقة التبت. وكذلك فعل المتظاهرون والمحتجون في مختلف أنحاء العالم حين شبهوا جورج دبليو بوش بالطاغية النازي هتلر.

ومن جانبهم، يرى الزعماء الأمريكيون المعاصرون أن نشر القوات العسكرية يكاد يكون مستحيلاً من دون توظيف مثل هذه اللغة الخطابية أولاً كشعار ووسيلة للدعم. وكان المثال الأكثر شهرة في هذا السياق في عام 1917، حين قال وودرو ويلسون مطالباً بإعلان الحرب ضد ألمانيا: «ليس بيننا وبين الشعب الألماني أي خلاف، ولا نشعر إزاء الألمان إلا بالتعاطف والصداقة. ولم تدخل حكومتهم هذه الحرب برغبة منهم». أي أن القيصر وأعوانه الأشرار هم المسؤولون وحدهم.

وفي عام 1990 استخدم جورج بوش الأب نفس اللغة فقال: «ليس بيننا وبين الشعب العراقي أي خلاف». وقال نجله جورج بوش الابن نفس الكلام في عام 2003، مضيفاً إليه: «إنهم ضحايا قمع صدّام حسين في كل يوم». وكان جورج دبليو بوش قد علق في وقت سابق قائلاً: «إن الشعب الأمريكي ليس على خلاف مع شعب أفغانستان»، أي أن الخلاف كان مع تنظيم القاعدة ومؤيديه من طالبان فقط. حتى أنه عمد إلى توظيف هذه العبارة في آخر خطاب لحالة الاتحاد في عام 2008، فقال: «إن رسالتنا إلى شعب إيران واضحة: نحن لسنا على خلاف معكم... ورسالتنا إلى قادة إيران أيضا واضحة: أوقفوا عمليات التخصيب النووي على نحو يمكن التحقق منه، حتى يمكننا أن نبدأ المفاوضات».

إن كل رئيس أمريكي منذ ويلسون تلفظ ولو مرة واحدة أثناء توليه المنصب بعبارة «ليس ببيننا خلاف مع» عدو أجنبي. إن مثل هذه التصريحات لا تلقى عادة إلا قبل أيام، أو ساعات في بعض الأحيان، من سقوط أول القنابل الأمريكية. وكان بِل كلينتون قد وعد في عشية قصف صربيا قائلاً: «مهما قلت فلن أبالغ في التأكيد على أن الولايات المتحدة ليست على خلاف مع الشعب الصربي». كما قال باراك أوباما أثناء حملته الانتخابية: «لسنا على خلاف مع الشعب الإيراني. فهو يدرك أن الرئيس أحمدي نجاد متهور وغير مسؤول ولا يبالي باحتياجات شعبه اليومية».

إن الرؤساء يستخدمون مثل هذه اللغة لسبب وجيه. فهم يدركون أن شعوبهم تفضل محاربة الطغاة وليس الأخوة وأبناء العمومة في الخارج. والحقيقة أن صياغة ويلسون الأولية نشأت من معضلة ديموغرافية وسياسية. ففي عام 1917 كان أكثر من ثلث الأمريكيين ينتمون إلى أصول ألمانية أو ترجع أصولهم إلى بلدان حليفة لألمانيا. ولم يكن بوسع ويلسون أن يناشد شعبه قائلاً «اقتلوا هؤلاء الألمان الأقذار»، كما فعل الزعماء البريطانيون والفرنسيون على نحو متكرر، وذلك لأن العديد من جنود ويلسون كانوا ينتمون عرقياً على الأقل إلى الجنس الألماني. لذا فقد سعى من خلال اللغة الخطابية إلى تحويل الجنود الأمريكيين من قَتَلة لإخوانهم إلى محررين لوطنهم الأصلي.

إن الرؤساء يعجزون عن شن الحروب ضد شعب بأسره إلا حين يبدو الأعداء الأجانب مختلفين عن تصور الأمريكيين لأنفسهم. وعلى هذا فقد كان بوسع فرانكلين روزفلت أن يحث الأمريكيين على حماية العالم من «هيمنة هتلر وموسوليني»، في حين كان يقول لهم في نفس الوقت إنهم في خضم الحرب ضد اليابان. فالحرب في أوروبا كانت حرباً تسعى إلى تحرير شعوب مقهورة من الطغاة. أما الحرب في منطقة المحيط الهادئ فكانت حرباً عرقية.

بيد أن هذه اللغة المواتية سياسياً تتسم بجانب استراتيجي سلبي. ذلك أنك بمجرد تحميل شخص بعينه المسؤولية عن صراع ما، مثل صدّام حسين أو كيم جونج إل، يصبح من الصعب أن ترى الحلول للصراعات الدولية التي لا تنشأ نتيجة لسقوط الطغاة. ولنتخيل معاً جورج دبليو بوش وهو يضاعف الرهان مع صدّام حسين في عام 2005 أو 2006، لو لم تعد الحرب إلى العراق مرة أخرى، بعد أن أطلق عليه وصف هتلر هذا الجيل.

والأكثر من ذلك إزعاجاً هو ربط الصراع بمصدر بشري واحد، وهو الأمر الذي يعمل على حجب الطبيعة الأكثر منهجية وغدراً للنزاعات الدولية. ومرة أخرى، تعالوا بنا نتخيل لو كان التاريخ الحديث قد اتخذ منعطفاً مختلفاً لو قَبَل صدّام عرض المنفى بدلاً من الحرب، أو لو كانت المحاولة الأولية التي استهدفت حياة صدّام في ساعات الحرب الأولى قد نجحت.

لو كان العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل حقاً، كما أكَّد الرئيس بوش، فإن رحيل صدّام كان ليعني ترك مثل تلك الأسلحة بين أيدي... بين أيدي من بالضبط؟ إن المعادلة بين الحرب وبين طاغية فرد تفرض إذن قيوداً استراتيجية على صناع القرار السياسي. كما تؤدي، وعلى نحو لا يخلو من المفارقة، إلى عدد أكبر من الخسائر في الأرواح بين المدنيين. إن القنابل التي تستهدف المستبدين الأجانب أو أجهزتهم الأمنية تسفر دوماً عن مقتل أفراد بعيدين كل البعد عن أروقة السلطة. ولا شك أن تسويغ وتبرير موت المدنيين يصبح أسهل كثيراً ما دام الطيارون والجنود، وعامة الناس الذين يراقبون من منازلهم، يعتقدون أن العنف كان موجهاً على الأقل نحو الشر متجسداً في هيئة أحد الطغاة.

إن مثل هذه اللغة تصادف النجاح في كل الأحوال تقريباً. فهي ذات طابع عالمي، ولكنها تساعد أيضا في تحويل العالم إلى مكان أشد خطورة بسبب إخفاء الأسباب الحقيقية للحرب، والسماح للشعوب في مختلف أنحاء العالم بتبرير العنف والصراع ليس كوسيلة لتحقيق غاية ما، بل كمهمة مقدسة للتحرير، والحرية، والقضاء على الطغيان. وإلى أن يرفض الزعماء السياسيون لغة الشر كمبرر للحروب، فمن غير المرجح أن تختفي الحروب.

جيفري أ. انجل مدير البرمجة بمعهد سكوكروفت للشؤون الدولية في جامعة تكساس الزراعية الميكانيكية.
خاص بـ(الجزيرة)



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد