تعتبر الترجمة من أهم أدوات نقل المعرفة الإنسانية في الوقت الحالي كما كانت في الماضي؛ فإلى جانب أنها أداة نقل للمعرفة فهي كذلك أداة حفظ لثقافة وتراث اللغة المنقول إليها؛ فمن خلالها تنمو معارف الأمم وتتجاوز محدودية لغتها دون المساس بهذه اللغة والثقافة التي تحملها؛
فالترجمة كانت الجواد الذي امتطته البشرية للوصول للحضارة التي ننعم بها في العصر الحالي؛ فعلماء المسلمين في الماضي استفادوا من ترجمة بعض مؤلفات الإغريق وغيرهم من الأمم الأخرى. كذلك أوروبا التي كانت تصارع عصورها الوسطى المظلمة استفادت من الحضارة الإسلامية وذلك بترجمة أمهات الكتب إلى اللاتينية وتدريسها في جامعاتها مثل كتاب (الجبر والمقابلة) للخوارزمي وكتاب (الحاوي) للرازي. لقد بلغ اهتمام الحضارة العربية والإسلامية في عصر نهضتها بالترجمة أن كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يدفع للمترجم وزن كتابه ذهباً لتحفيز حركة الترجمة، وهو ما كان أيضاً موجوداً في الحضارة الغربية في عصر نهضتها (الخطيب، 2009).
شهد العالم في أواخر القرن العشرين الميلادي ومطلع القرن الواحد والعشرين انفجاراً هائلاً لا نظير له في التاريخ البشري في المعلومات والمعارف وأنواعها ومصادرها بمختلف اللغات، وهو ما يؤكد أهمية دور الترجمة في نقل هذه المعلومات والمعارف من لغة أخرى. يبدو أن هذا الانفجار المعلوماتي والمعرفي في العالم لم تواكبه أي حركة ترجمة نشطة ومنظمة في العالم العربي تعمل على سد الفجوة المعرفية بين دوله والدول الأخرى المتقدمة. يعتبر نصيب الدول العربية من الترجمة السنوية ضعيفاً للغاية إذا تم مقارنته بما يترجم في بعض الدول، في حين يترجم في العربية التي يزيد تعداد سكانها على 270 مليون نسمة نحو 450 كتاباً في العام الواحد نجد أن في دول مثل إسبانيا التي يبلغ سكانها 38 مليوناً يترجم سنوياً أكثر من 10000 كتاب، وفي السويد التي لا يزيد سكانها على 9 ملايين يترجم أكثر من 2500 كتاب سنوياً، وفي اليابان يترجم أكثر من 35000 كتاب سنوياً، وفي إسرائيل تعادل نسبة الكتب المترجمة إجمالي الكتب المترجمة في العالم العربي (جلال، 1999).
وعند استعراض الدراسات التي حاولت رصد حركة التعريب والترجمة في المملكة العربية السعودية نلمس عن قرب عمق الفجوة بين ما يترجم فيها من كتب وغيرها وبين دول أخرى مثل اليونان وإسبانيا وألمانيا واليابان وغيرها؛ ففي دراسة بعنوان (ترجمة الكتب إلى اللغة العربية في المملكة العربية السعودية ودورها في إثراء الإنتاج الفكري للفترة من عام 1930 إلى 1992م: دراسة ببليومترية)، حصرت الباحثة نورة الناصر (1998) الكتب المترجمة من اللغات المختلفة للغة العربية. وجدت الباحثة أن ما ترجم من كتب أجنبية إلى اللغة العربية في الفترة الزمنية المحددة للدراسة على مدى 62 عاماً بلغ 502 كتاب، وهو ما وصفته الباحثة بأنه غير مواكب لمسيرة التطور العلمية والثقافية والصناعية في المملكة العربية السعودية. وفي دراسة أخرى بعنوان (دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي) للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تناولت هذه الدراسة واقع الترجمة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة الزمنية من 1975م إلى 1985م، خلصت الدراسة إلى أن عدد الترجمات الصادرة في هذه الفترة كانت 102 ما بين كتاب وأطروحة ومرجع، لم يكن بين هذه الترجمات أي كتاب ذي طابع أمني.
وعن صناعة الترجمة في المملكة العربية السعودية، قام الخطيب (2009) بمسح وإحصاء الكتب المترجمة في كل التخصصات من المصادر الببليوغرافية المختلفة لتغطي الفترة منذ تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1930 إلى 2005م، وجد الباحث أن إجمالي الكتب المترجمة إلى اللغة العربية في المملكة العربية السعودية خلال الفترة الزمنية المحددة للدراسة بلغ 1260 كتاباً، وهو ما جعل الباحث يصف هذا العدد بالضئيل جداً مقارنة ببعض الدول العربية مثل مصر ولبنان وسوريا، ودول أخرى مثل اليونان وإسبانيا. كان للعلوم الاجتماعية النصيب الأكبر من الأعمال المترجمة حيث بلغت 491 كتاباً، وتلتها العلوم الإنسانية 252 كتاباً، والعلوم التطبيقية 218 كتاباً، والمعارف العامة 125 كتاباً، والعلوم البحتة 114 كتاباً، وأخيراً الآداب 60 كتاباً. ورصد الخطيب 19 كتاباً مترجماً في العلوم العسكرية، ولكنه لم يحدد إذا ما كان بينها كتب أمنية. وفي دراسة حديثة، قام العمار (2009) في أطروحته للدكتوراه بحصر الكتب الأمنية بما فيها الكتب الأمنية المترجمة الصادرة في المملكة العربية السعودية، حاول العمار التعرف على السمات البنائية للإنتاج الفكري السعودي في المجال الأمني، بما في ذلك الكتب الأمنية المترجمة خلال الفترة الزمنية من 1950 إلى 2005م، حصر الباحث 1434 كتاباً أمنياً أنتجه السعوديون داخل وخارج المملكة العربية السعودية. وجد الباحث أن مجموع الكتب المترجمة خلال هذه الفترة الزمنية هو 9 كتب فقط، وبلغت الكتب المترجمة ما نسبته 00.63% من مجموع الكتب المنتجة. كما بلغت نسبتها 25% من الموضوعات المغطاة (خمسة موضوعات فقط)، وقد تطابقت كل من الكتب المؤلفة، والكتب المترجمة فيما يتعلق بالموضوع الأكثر تغطية في كل منهما، حيث جاء موضوع الأمن الداخلي في رأس الموضوعات في كل منهما (490 كتاباً مؤلفاً 34.18% من مجموع الكتب المؤلفة، و4 كتب مترجمة 44.4% من مجموع الكتب المترجمة)، وبالنسبة للكتب المترجمة فقد تساوت الموضوعات الأربعة الأخرى حيث بلغ عدد الكتب في كل منهما كتاباً واحداً.
يوجد مجموعة من المعوقات أدت إلى تأخر حركة تعريب الكتب والمراجع في العلوم الأمنية من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية في المملكة العربية السعودية، وأبرز هذه المعوقات:
1) عدم وجود مركز مخصص للترجمة على مستوى وزارة الداخلية وقطاعاتها، يأخذ على عاتقه تنسيق وتنظيم ودعم عملية الترجمة على كافة مستوى القطاعات الأمنية المختلفة، وإيجاد استراتيجية موحدة يتم من خلالها تحديد حاجات القطاعات الأمنية من الوثائق والكتب والمراجع في المجالات الأمنية المختلفة.
2) عدم وجود أي تنسيق في مجال الترجمة بين المؤسسات والمراكز العلمية المعنية بالعلوم الأمنية مثل كلية الملك فهد الأمنية، وجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، ومركز أبحاث الجريمة، وأكاديمية الأمير نايف للأمن الوطني. يوجد في هذه المؤسسات الكفاءات الوطنية القادرة على تحديد ما تحتاج إليه القطاعات الأمنية من الترجمة الأمنية، ولكنها لم تفعل ولم يتم الاستفادة منها في تفعيل حركة الترجمة في المجال الأمني على مستوى المملكة العربية السعودية.
3) قصر دور أقسام الترجمة في بعض القطاعات الأمنية على مجرد ترجمة وثائق ومستندات، وإهمال ما يحتاج إليه القطاع من المعارف الأمنية التي لا توجد إلا في الكتب والمراجع الأمنية، كذلك قيام بعض أقسام الترجمة غير المفعلة في هذه القطاعات الأمنية بالاعتماد على مكاتب ترجمة معتمدة من خارج القطاع في ترجمة بعض الكتيبات والمستندات لأجل استخدامها داخل القطاع دون نشرها وتداولها بين القطاعات الأمنية. هذا من شأنه أن يحجم حركة الترجمة على مستوى الوزارة وقطاعاتها الأمنية، ويجعلها تجارية بحتة، ويجعلها حبيسة الأدراج.
4) عدم وجود أي نوع من التنسيق بين أقسام الترجمة في القطاعات الأمنية أو أي وجه من أوجه التعاون بينها في مجال الترجمة الأمنية.
5) بدأت القطاعات الأمنية في استقطاب خريجي الجامعات السعودية في تخصصات الترجمة واللغات المختلفة في السنوات الخمس الأخيرة بقصد تعينهم كمترجمين. تعاني فئة كبيرة من هؤلاء المترجمين من تذبذب كبير في مستواهم اللغوي، خصوصاً بعد انقطاعهم عن استخدام اللغة لمدة سنتين بسبب التحاقهم بمرحلة الدبلوم الأمني في كلية الملك فهد الأمنية. تحتاج هذه الفئة إلى التدريب المتواصل في الترجمة واللغة ليصبحوا قادرين على القيام بواجباتهم كمترجمين في قطاعاتهم الأمنية. للأسف الشديد يفتقد الكثير منهم التدريب والتأهيل المناسب في مجال الترجمة.
6) قلة وندرة المتخصصين المهتمين بالترجمة في مجال العلوم الأمنية من المجيدين للغات الأجنبية ويحملون درجات عليا في التخصص الأمني في وزارة الداخلية وقطاعاتها الأمنية؛ مما أدى إلى ضعف إسهام المترجمين السعوديين، مقارنة بغيرهم من غير السعوديين في هذا المجال المهم.
7) عدم وجود التشجيع المادي والمعنوي الكافي للمترجمين من قبل المؤسسات الأمنية في المملكة العربية السعودية، فلا توجد لوائح تنظيمية لعملية الترجمة في هذه المؤسسات الأمنية تستقطب المترجمين المؤهلين للعمل في مجال ترجمة العلوم الأمنية.
8) تعاني برامج تعليم اللغات في المؤسسات الأمنية في المملكة العربية السعودية من ضعف شديد، ويتخرج منها عدد كبير من الضباط لا يستطيعون استخدام اللغة الأجنبية التي تعلموها؛ وبالتالي لا يتمكنون من خدمة قطاعاتهم الأمنية في مجال ترجمة العلوم الأمنية. ومع أن حركة الترجمة في المملكة العربية السعودية تشهد نشاطاً ملحوظاً على مستوى الدولة، ولعل الشاهد على ذلك جائزة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - العالمية للترجمة، وهو ما حفز الأفراد والمؤسسات العلمية في المملكة على الاهتمام بالترجمة، إلا أننا نجد أن الترجمة بشكل عام والترجمة الأمنية بشكل خاص لم تحظَ باهتمام وزارة الداخلية وقطاعاتها الأمنية (الحقباني، 2006، الحقباني 2009)، ولا توجد كتب أمنية مترجمة صادرة عن المؤسسات الأمنية في المملكة، والكتب المترجمة القليلة جداً الموجودة في المملكة العربية السعودية هي كتب مترجمة قادمة من خارج المملكة أو صادرة في المملكة من دور نشر خاصة لا تمت بصلة إلى وزارة الداخلية وقطاعاتها الأمنية المختلفة، ولا تسير هذه الترجمات على خطط مدروسة تهدف إلى ترجمة الكتب والمراجع الأمنية إلى اللغة العربية للقطاعات الأمنية التي تحتاج إليها؛ ولذلك هناك ضرورة قصوى لإنشاء مركز للترجمة يتبع وزارة الداخلية يعنى بشؤون الترجمة الأمنية ورسم استراتيجيتها وأهدافها، ويؤمن مصادر التمويل، ويعد الخبرات الفنية والبشرية والتقنية، وينسق جهود وحاجات القطاعات الأمنية من الترجمة الأمنية، ويبسط إجراءات الترجمة الأمنية من الناحيتين الإدارية والفنية.
عضو هيئة التدريس - كلية الملك فهد الأمنية
mohammed@alhuqbani.com