Al Jazirah NewsPaper Tuesday  05/01/2010 G Issue 13613
الثلاثاء 19 محرم 1431   العدد  13613
 
الحلقة الأخيرة
مدخل لدراسة الشعر السعودي المعاصر..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

7 - والحديث عن الشعر في جنوب البلاد له تداعياته التي تصل بالدارس والمؤرخ إلى أعماق الزمان والمكان، والصلات بينه وبين مستقر الحضارات، ومصدر القوافل البشرية، وهي صلات لا تبين إلا لرصد حصيف، ومتابع دقيق، والشعر في الجنوب

ذو صلات وثيقة بأدب (اليمن) وشعرائه وما عليه الشعر في شكله ولغته ومضامينه ولقد عرفت به أسر عريقة ك(آل حفظي) وشعراء هذه الأسرة عبروا عن تواصل قومهم بالحركة الإصلاحية التي وصلت إليهم طلائعها في مستهل القرن الثالث عشر، والشعر في بداياته كان محافظاً بل هو إلى التقليدية أقرب، ولقد جاءهم النظم والنفس الصوفي من احتكاكهم بشعراء اليمن، وإن لم يبلغوا شأوهم، فاليمن كان على شيء من العلم والأدب والاستقرار.

لقد عرف من هذه الأسرة شعراء مقلون ومكثرون ومحافظون ومقلدون وناظمون، وجنوب البلاد تقتسمها ثلاث مناطق، (منطقة عسير) و(منطقة جازان) و(منطقة الباحة)، وهذا التقسيم الإداري له مبررات جغرافية وسكانية، ولكل منطقة دورها في الحركة الشعرية، وأكاد أقطع بأن لكل منطقة نكهة شعرية ترتبط بما يمثل فيها من هموم، ولقد يكون الشعر في (جازان) أكثر التصاقاً بالواقع وأقرب إلى الذاتية، وبخاصة عند شعرائه الشباب، ولكل فترة من فترات البلاد ما يلائم أحوالها، وهي في كل الأحوال أميل إلى المحافظة والدين، والحديث عن الشعر في الجنوب ينطلق عادة من عسير، ورأس شعرائها في البدايات الأولى (محمد بن أحمد الحفظي)، وكان معدوداً من شعراء الدعوة، صوّر الأحداث ونبذ الخلاف، ودعا إلى مكارم الأخلاق، فكان شعره أوزاعاً بين الدعوة والمنافحة والإصلاح، وشعر هذه المرحلة وتلك الفئة شعر علمي وعظي تقليدي، ولكنه ينم عما يتوفر في تلك البقاع من ثراء علمي شرعي وتراث أدبي غزير.

ولما لم تنج تلك البقاع من الفتن والحروب الداخلية، فقد أصبح الشعر ديوان الأحداث، وأصبح الشعراء لا ينفكون من الدفاع أو الهجوم على خصومهم، وحكم البلاد تداولته أسرة (آل عائض) حتى امتدت إليه يد الأتراك، الذين ضيقوا على أهل تلك البلاد الخناق، فانتقل الشعر من الفخر إلى الشكوى ووصف الأوضاع المتردية يقول (أحمد بن عبدالخالق الحفظي):.

فكم هتكت أستار دين وعطلت

مدارس للتدريس من كل عالم

وبعد استعراض الفتن توجه إلى السلطان مستنجداً ومستعدياً:-

ولم يدر سلطان الأنام بحالها

لما هو فيه من جميع الأقالم

والمتابع لهذه المرحلة يدرك ما عليه الشعر من علمية وموضوعية ونظمية، وشيء من التكلف والصنعة، وهو بهذه السمات يجسد حالة البلاد إبان نهضتها، ويكشف عن مبلغهم من العلم والأدب، وكانت لهذا الشاعر مواقف تنم عن تذمر البلاد وأهلها، من جور الأتراك، حتى لقد طاردوه وأسروه ونفوه.

ولم يكن هذا اللون من الشعر هو المتنفذ وحده في تلك المناطق، وفي تلك الفترات، بل آزره لون آخر جنح إلى الذاتية والوصفية، نجد ذلك عند الشاعر (علي بن زين العابدين الحفظي) وفي شعره تتبدى الغربة والحنين:-

هب النسيم فقلبي كاد ينفطر

والدمع يجري على الخدين منحدرا

ولم ينج شعره من الركاكة والاضطراب والمغالبة، والحديث عن شعراء تهامة عسير، يفضي بنا إلى شعراء جبال السراة، ومن شعراء تلك الأنحاء (آل النعمي) و(آل المتحمي)، وآخرون تبدت في شعرهم أحوال البلاد، وما تعرضت له من فتن، وشعر هذه الأنحاء في تلك الفترة، لم يتخلص من العلمية والتقليدية، وهو إفراز مرحلة مضطربة في كل وجوه الحياة، والمنقب في الشعر يستبين ملامح الحياة بكل وجوها.

فالشاعر (عبدالله بن محمد النعمي) صور حياة البلاد، ومواقفها من حركة الإصلاح الديني، وما تعرضت له من غزو مدمر، تولت كبره (تركيا)، التي عارضت الدعوة، وخافت من انتشارها، ومثلما تنوعت الأغراض في الشعر التهامي، فقد تنوع في جبال السروات، فالشاعر (محمد المتحمي) عاش النفي والغربة، وكذلك ابنه، يقول في ذلك:-

تحية صب قد برى الشوق جسمه

وأدمعه من حر نار الجوى تجري

والمؤرخ للمخلاف السليماني، يلمح إلى بعض الظواهر الشعرية، ويحتفي بالذاتيات منها، لما تنطوي عليه من تصوير دقيق للأوضاع المتردية.

وشعر البدايات في تلك الأنحاء، لا يخرج عن الأغراض الشعرية القديمة، فالشعراء ملتزمون بالموضوعات التي ورثوها عمن سلف، متحرفون في المعاني تحرفاً تفرضه بيئة البلاد وأحوالها.

ولم يدم شعراء الجنوب أسرى الظروف السياسية والدينية والأدبية، بل بدأ الاستشراف وقويت صلتهم بالمستجد من حولهم، وكان للتعليم النظامي الذي وضع أسسه المؤسس أثره في سائر التحولات، وبخاصة الشعر، والبلاد بكل أقاليمها ومناطقها مرت بنقلة لا توصف بالنمو وحسب، ولكنها قفزات تكاد تكون مربكة، ومحاولة الربط بين فترات البدايات وما تلاها محاولات غير ممكنة، فالبلاد كمن هب من سبات عميق، وأحس أنه تأخر في انطلاقه، فأصر على اللحاق بالركب العربي، فكان أن لحق في وقت قصير، والذين قسموا حركة الشعر بين مراحل متعاقبة، يعون حجم التغيير الذي باعد بين مرحلة وأخرى.

والدكتور (عبدالله أبوداهش) خير من رصد للحركة الأدبية في تلك الأنحاء، وهو في آخر إصداراته تحدث عن مرحلتين، جمعهما في مئة وثمانين عاماً، وتلك مدة متطاولة لا تستجيب لتقسيماته، ولكنه شاء لها أن تكون، وله أعمال أخرى تحدث فيها عن الشعر، وبخاصة في كتابيه (الحياة الفكرية والأدبية في جنوبي البلاد) و(نشأة الأدب السعودي المعاصر في جنوبي المملكة العربية السعودية) والكتب الثلاثة انطلاق متوسع من كتابه (أثر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الفكر والأدب بجنوبي الجزيرة العربية). ولقد غطى في كتبه الحياة الأدبية، وكان ظهيراً لسلفه الأستاذ (محمد بن أحمد العقيلي) رحمه الله.

وبتجاوز مرحلة ما قبل التوحيد، نجد أن حركة التغيير كانت بطيئة ومترددة، فالشعراء الذين تلقوا الراية ممن سلف، حافظوا على كافة الملامح، ولم يغيروا في الشعر بالقدر المؤمل، وممن عرف من الشعراء في تلك المرحلة الانتقالية (يحيى عبدالله المعلمي) و(محمد بن أحمد العسكري) و(عبدالله بن شايع العسيري) و(يحيى بن إبراهيم الألمعي) و(الحسن بن علي الحفظي) و(هاشم سعيد النعمي) و(زاهر بن عواض الألمعي)، ولقد ساق (أبوداهش) أطرافاً من شعرهم، وبسط القول عنه، وهو شعر محافظ، وإن وصفه الدارس بالنشاط والنمو محيلاً ذلك إلى الانفتاح والصحافة. وأحسب أن مرحلة الانفتاح والكثرة والتجديد، تتمثل في مرحلة ما بعد الثمانينات من القرن الماضي، وهي مرحلة أجمل الحديث عنها، ولم يبسطه استغناء بما قدم من دراسات في كتب سلفت.

وتلك المرحلة زاهرة بعدد كبير من الشعراء الشباب، الذين أكملوا تعليمهم، وخرجوا من ديارهم، ولحقوا بعواصم الأقاليم ك(الرياض) و(الحجاز)، ومن هؤلاء (إبراهيم طالع الألمعي) و(أحمد إبراهيم مطاعن) و(أحمد بن عبدالله عسيري) و(أحمد بيهان) و(علي آل عمر عسيري) و(علي عبدالله مهدي) وآخرون، ولقد تناولت طائفة منهم في كتابي (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر).

8- وإذ فرغنا من الحديث عن النظامين والمقلدين والمحافظين، وهو حديث يحيل إلى المصادر، ولا يستحضر النصوص لضيق المدخل ومحدوديته، نكون قد قاربنا الحديث عن طائفة معادلة، وهي طائفة المجددين، والتجديد كسالفه فيه المضارع والضريع، والمجدد الذي تعرف في إبداعه نظرة التألق والتفوق، والحداثي الذي انقطع عن الماضي، ولم يلحق بالحاضر، ونسف قنوات التواصل حتى لا يبلغ دلالة ولا يمتع سامعاً، هذا فضلاً عما ينتابه م ن انحراف في الفكر وسقوط في الأخلاق، وطائفي الحداثة يعده الموالون من التجديد المشروع، وما هو منه، فالتجديد بيّن والتقليد بيّن، وبينهما أمور ليست من التجديد المشروع، إلا المغلطين الذين يظنون أنهم يخادعون الراصدين للحراك الثقافي، وما يخدعون إلا أنفسهم. والناقد المعياري المعرفي لا يلتفت إلى الادعاءات، ولكنه يخلو بالنصوص يسائلها عما تنطوي عليه من جمال وجلال، فإن وجدها مستوفية شرط الفن، وضابط اللغة وشرف الدلالة شهد بما علم وإلا نبذها كما تنبذ الأودية ريد الماء الذي يذهب جفاء.

والشعر والشعراء في المملكة ليسوا بدعاً من الشعراء في سائر الأزمنة والأمكنة، فهم أوزاع بين المجددين والحداثويين، وليست مجاهرتهم بهذه الظواهر كمجاهرة أساطين الأحداث، غير أنهم يميلون إليهم ويلجون بالثناء عليهم، ولا يجدون غضاضة في الانتماء وحاجتهم إلى من يصدقهم القول لا إلى من يتملقهم بالتصديق، فالموهبة حين يتوفر عليها الشاعر المقصر لا تقوى إلا مع التعقب، لأن تقصيرها تقصير قادر على إتمام ومسايرة القادر على تقصيره تقصير مضاعف، وما نقوله هنا ليس نهائياً لا معقب لحكمه، ولكنه رؤية معززة بما ستحيل إليه من شعر أونثر ومثلما أن الأرواح جنود مجندة، فإن الأذواق كذلك، ولكن التفاوت لا يمكن الضعيف من النفاذ إلى سدة الجودة والتألق، وحرارة النقد كما النار التي

تذهب خبث الحديد والخاسرون من محاباة النقد هم الشعراء ومشاهدهم، وما صفت المشاهد وتألق الشعر إلا في ظل نقد لا تأخذه بالحق لومة لائم.

والذين يظنون أن التجديد مجرد المغايرة، تأخذهم بنيات الطريق فيقعون كما وقع المقلدون، إن محاكاة الآخر وإن كان معاصراً تعد من أسوأ صنوف التقليد، وحين نؤاخذ المقلدين للمعاصرين نعرف كم هو الفرق بين (التقليد) و(التناص)، وما قعدت حركة الشعر إلا حين وقع المبتدئون بالتشايل والمقايضات، وما تألق شاعر إلا تحت طائلة الاختلاف حوله ف(المتنبي) له خصوم أشداء لا يستهان باقتدارهم، وله أنصار كذلك، واستطاع بالاختلاف أن يكون الشاغل، والتجديد كما الخضرمة لا يفصله حد حسي، وإنما هو نمو كما نمو الأشجار والأناسي، يكون طبيعياً لا يتبينه إلا الراصد الحصيف، ومن تعمد التجديد وقع في التعمل، فالشاعر يستلهم واقعه ومعطياته الثقافية، ويتحسس ذوائق عصره ومتطلباته، فإذا تلبس بالإبداع لا يستحضر السمات، وإنما يعي عصره، وبهذا يكون الشعر جديداً كما يريده المجتمع، وما من شاعر صب اهتمامه في البحث عن سمات التجديد ثم راح يصنع القصيدة ويتصنع إلا جاء شعره دون المستوى، والمشهد الشعري الحديث تتنازع شعراءه الصنعة والتصنع والعفوية، وعين الناقد الواعية تعرف كل قصيدة بسيماها وترد كل إبداع إلى مصادره.

والنظر إلى نصيب الشعر السعودي من التجديد، يتطلب إحالة النظر في مناطقه المختلفة، وفي إمكانياتها المدنية والمعرفية، و(الحجاز) أوفر حظاً من سائر المناطق، وأغزر شعراً، وأكثر شعراء، ومشهد الأدب، والشعر فيه يصيخ إلى أصوات الشعر في مصر والشام، وقد يفد إليه شعراء من مصر أو من الشام، بل إن المقيمين من شعراء الشام أكثر تأثيراً ممن يبعثون بأعمالهم الشعرية، وشعراء الحجاز وكتابه لم يجدوا بداً من التلقي والتأثر، والبعض منهم تمسك بسمات التراث، ولم يستجب لما جد، والبعض الآخر اغترف غرفة بيده، وآخرون شربوا من الجديد حتى تضلعوا ولعل رائد أولئك (محمد سرور الصبان ت)، وقد استعذب المستجد ثلة من معاصريه منهم (محمد عمر عرب) و(أحمد العربي). وإذا كان تجديد الصبان قد جاء عفوياً هادئاً، فإن تجديد (محمد حسن عواد) كان عنيفاً مندفعاً.

وإذ لم يتبنَ (الصبان) زعامة التجديد، ولم يكن إلا مؤرخاً للأدب داعياً لتحولاته، فإن (العواد) كان الأكثر حضوراً والأشد عنفاً) والأحرص على تسنم سدة التجديد، وإذ لم يخلف (الصبان) شعراً كثيراً فإن (العواد) تابع الإبداع وتابع إصدار الدواوين، ومضى الاثنان دون أن يكون لهما الأثر المأمول. ف(الصبان) جذبته المسؤوليات الرسمية واستغرقته الوجاهات، ولم يشأ تقييد نفسه مع الشعراء والنقاد، بل منحهم شيئاً من عطفه، وقضى نحبه دون أن يترك لنفسه ما تركه الشعراء والنقاد. وأما (العواد) فقد كان صلفه واندفاعه وحدة مزاجه وتجاوزه لمرحلته سبباً في عزلته وتفرق الناس من حوله، وبين مسؤولية الصبان، وصلف العواد توقفت حركة التجديد إلى حين، ولم يبادرها الشعراء الشباب إلا بعد حين.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد