لم تعد الدول التي تسعى لاحتلال مقعد في صفوف الدول الكبرى تعتمد على قواتها العسكرية ولا نفوذها السياسي ولا أسلحتها النووية. فبعد أن أصبح التطور الاقتصادي وما يتحقق من نمو صناعي، دخلت الثقافة في اهتمامات الدول واستثمارها لتعزيز نفوذها وحضورها على المسرح الدولي. وأصبحت اللغة سلاحاً لتحقيق فهم واختراق في مجتمعات الدول الأخرى.
هذه الخاصية انتبهت لها الدول الاستعمارية الكبرى، فاللغة الإنكليزية والثقافة الأوروبية وبالذات البريطانية كانتا عوناً كبيراً لبريطانيا في السيطرة على شبه القارة الهندية. وأصبحت اللغة الإنكليزية اللغة الرسمية في أكثر من نصف الكرة الأرضية من شرق السويس وصولاً إلى الهند وباكستان وسيرلانكا والنيبال حتى الصين، في حين انتشرت اللغتان البرتغالية والإسبانية مدعمتين بالثقافة اللاتينية في أمريكا الجنوبية.
طبعاً هيمنة ثقافة ما وانتشار لغة بعينها يساعد على تعزيز نفوذ الدولة التي تتبع لها تلك الثقافة. وهذا ما تتفهمه وتعمل به كل الدول التي تبحث عن موقع متقدم لها؛ كبيرها وصغيرها.
بريطانيا وأمريكا مثلاً تتوسعان في إقامة المراكز الثقافية ومعاهد تعليم اللغة الإنكليزية، مثلما تفعل فرنسا التي تقود جهود تعميم الثقافة الفرانكفونية وتعميم اللغة الفرنسية، وهو ما تحاول أن تقوم به ألمانيا التي تمول إقامة معاهد للغة والتدريب المهني من خلال معاهد غوتة.
هذا النشاط الثقافي الساعي لتعزيز نفوذ الدول تنبّهت له الدول النامية الكبرى المتقدمة ك(الصين والهند واليابان وكوريا) التي تخوض صراعاً لنشر ثقافاتها وتعميم لغاتها، ونفض المختصون الغبار عن التاريخ وأعادوا تقديم ثقافاتهم بأسلوب عصري، فالصين تحاول الاستفادة من تداعي القيم الليبرالية الرأسمالية الغربية لتعمل على تعزيز مكانتها كقطب عالمي للاستقرار والنمو الاقتصادي، مستفيدة من الولع شبه الجنوني بكل ما هو صيني من اللغة إلى الفلسفة إلى المعتقدات والثقافة. ولتحقيق هذا الغرض أُعيد الاعتبار للفلسفة الكونفوشية، حيث قامت الحكومة الصينية بنشر مئة معهد كونفوشي حول العالم من خلال حملة أسمتها تقديم صورة (القوة الناعمة) عن الصين، ورصد لهذه الجهود مبلغ عشرة ملايين دولار، إلا أن هذا المبلغ الضئيل نسبياً أشعل رغبات الكثيرين في تعلم اللغة الصينية وثقافتها وخصوصاً الفلسفة الكونفوشية التي تحظى باهتمام كبير من الفلاسفة وخصوصاً الذين يبحثون في خصائص الانسجام والسلام الروحي.
نشاط الصينيين حفَّز ونبَّه نظراءهم في الهند واليابان اللتين أعلنتا عن خطط طموحة للتعريف بثقافتيهما على الصعيد العالمي.
ففي عام 2007م أعلنت اليابان عن إنشاء مئة مركز جديد لتعليم اللغة اليابانية في مختلف أنحاء العالم، كما طوَّرت الهند خططها وبرامجها وأطلقت حملة واسعة للتعريف بالتقاليد الثقافية الفنية، حيث تتفوق الهند في هذا المجال، إذ تنشر التقاليد والثقافة الهندية التي ساعدت السينما الهندية على انتشارها وتعريف العرب والأوروبيين بالثقافة الهندية ولغاتها وتوابلها وأكلاتها التي يقبل عليها العرب والأوروبيون والأفارقة وحتى الصينيين أنفسهم الذين عليهم أن يقنعوا أتباعهم أولاً بأفضلية كانفوشوس على بوذا.
jaser@al-jazirah.com.sa