وسط ثلاثة وستين متحاوراً يمثلون أطيافاً ومذاهب متعددة ورؤى وتطلعات وأفكاراً مختلفة؛ ضاعت الوسطية، بل غرقت وسط بحيرة الإقصاء والتهميش، وتخوين الآخر والأحادية والاعتداد بالرأي، بدلاً من السباحة في محيط التسامح والاعتدال! حيث أدى انقسام المتحاورين لفريقين ليبرالي ومتشدد إلى انزواء الوسطية وانطوائها وخوفها من أن تنالها شظايا المعركة وسهامها، لدرجة اتهامها بالنفاق، ووصف معتنقيها بالمائعين! وتعميم المقولة الشهيرة (من لم يكن معنا، فهو ضدنا!) فاللون الرمادي ممنوع! وحين تتصالح مع شخصيات الطرفين، وتتسامح مع أفكارهم وتناقشها بهدوء، فلن يقبل بك كلاهما ولن تجد مكاناً بينهما ولن يُسمع لك صوتٌ! بل يجد الوسطيون أنفسهم بين تراشق الألفاظ وتبادل الاتهامات خارج دائرة الحوار التي ينبغي أن يكونوا نجومها!
وجدت صاحبة (المنشود) اسمها في الحوار الوطني يتوسط شخصيتين في غاية التناقض الفكري، وعلى مدى خمس جلسات كانت ترقب الوضع فلا ترغب في خسارة الطرفين ليبرالياً كان أو متشدداً، فأرخت خيوط النزاع وشدت حبال التسامح لتكسب جولات الحوار، وتخرج منه أكثر حلماً وأوسع أفقاً وأعمق فكراً بأن الإنسان هو الجوهر، والأفكار والرؤى والتطلعات صفات عرضية وسلوكيات متغيرة يمكن أن تبقى أو تزول أو تتهذب وتتطور.
وعادت من جلسات الحوار أكثر تصميماً على تمسكها بوسطيتها (المائعة) حتى ولو كانت دون طعم ولا رائحة ولا لون كالماء تماماً! الذي يحمل هذه الصفات ولا غنى عنه! لأنها لا تريد طعم الشقاق، ولا رائحة الإقصاء، ولا ألوان الفرقة. فالوسطية تنادي بالحوار الخلاق، بما تحمله الأخلاقيات من مُثُلٍ سامية ومعانٍ نبيلة! لإدراكها أن أفكار الآخرين وآراءهم هي خيارات وليست ملزمات مفروضة! وثقافة التشكيك بالمواطنة ما هي إلا مؤامرة لئيمة، كما أن ثقافة التكفير نبذٌ ممجوج! وفي حين أن الوطن أرض وأمومة وانتماء وهو قادر على احتواء أبنائه، فإن الإسلام أوسع من سنن الرواتب وتخليل الأصابع في الوضوء! والتكفير ليس رأياً محضاً كما أن الحكم بدخول الجنة ليس حكراً على فئةٍ دون أخرى!
انضممتُ إلى عِقد الحوار الثقافي وكنتُ آمل ألا يتأبطَ أحدنا أجندته المعدة سلفاً، وإن فعل فلا يخرج بها ذاتها دون أن يفكر بتطعيمها بأفكار المتحاورين ممن حوله، ليكون بعدها قادراً وإياهم على صياغة رؤية مستقبلية للخطاب الثقافي واستخلاص الأفكار الإيجابية المطروحة وتطويرها وفق ثوابت دينية ووطنية.
وإن كان قد عاد بعضنا بنفس أفكاره وذات قناعاته، ولم يصقله الحوار ويهذب ألفاظه؛ فليس للوطن فيه حاجة! ولا لسلسلة التنمية فيه مطمع! برغم التطلعات أن يذيب الاجتماع الوطني فوارق البعد الجغرافي ويقرب شتات القلوب، ويجمع الأهداف، ويرسخ القناعة بأن بلداً كبلدنا يستحق أن يجد له مكاناً يليق به بين الدول العظمى! بعيداً عن مصطلح الخصوصية المغرقة بالبدائية، قريباً من مفهوم الهوية الإسلامية التي لا تقبل المساومة ولا تخضع للمزايدة! في الوقت الذي يجب أن ينأى مفهوم المواطنة عن أي مسمياتٍ سوى الانتماء له وقبوله أبنائه مهما كانت اتجاهاتهم وأفكارهم ومذاهبهم.
بعد نهاية فعاليات الحوار، قرأت تداعياته في مواقع الإنترنت فاكتشفت أن كل فريق يطبّل لمعتنقي أفكاره وكأنه هو من أوفدهم لملتقى الحوار! فهذا يُشاد به لأنه أسكت فلاناً! وذاك يصفّق له لأنه أفحم فلاناً! والآخر يُدعى له لأنه ألقم فلاناً حجراً! وعلى مستوى المناطقية؛ فقد توالت احتفالات بعض المحافظات بعودة مثقفيها الذين مثلوها في الحوار الثقافي، وكأنه ليس تمثيلاً للوطن! بينما هم لم يحركوا ساكناً ولم يسكنوا متحركاً! وعلى المستوى القبلي؛ فقد احتفت إحدى القبائل بابنها البار الذي شارك في الخطاب الثقافي وكأنه جاء من مهرجان المزاين!
أيها الوطن الحليم، الشامخ بمثقفيك.. أحسن الله عزاءك!
www.rogaia.net
rogaia143@hotmail.com