قبل أن يعقد وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين اجتماعهم في السابع والثامن من شهر ديسمبر الماضي.. لدراسة «المبادرة» الرائعة وغير المتوقعة التي تقدم بها وزير الخارجية السويدي «كارل بيلدت»، والداعية...
ل»الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين.. حال إعلان الدولة»، والتي ستطرح على القمة الأوروبية في ظل آخر أيام الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي يومي العاشر والحادي عشر من الشهر نفسه ل»التصويت» عليها.. تفضل «ديبلوماسي عربي» - قيل صحفياً.. إنه يعمل بمكتب الجامعة العربية في بروكسل - ب»نسف» المبادرة من أساسها فلم يبق لها ولا ل»السويد» ولم يذر، وكأنه ديبلوماسي «إسرائيلي» أو «أمريكي» على الأقل.. عندما قال في تصريحات صحفية صاعقة ب(أن مشروع القرار السويدي حول الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية.. هو مجرد فضفضة سياسية أوروبية)!! و»أن القرار سيتحول إلى حبر على ورق.. بالأدراج السياسية الأوروبية)!! و(أن المشروع السويدي يأتي من منطلق محاولة السويد لأن تختتم فترة رئاستها للاتحاد الأوروبي - انتهت مع نهاية ديسمبر - ببصمة أو بذكرى واضحة.. وهي البلد الصغير الذي نفذ سياسات الدول الكبرى خلال الستة شهور الماضية دونما إرادة واضحة منه)!! و(على الشعب الفلسطيني أو العرب.. ألا يصفقوا أو ينخدعوا)!! و(أن خيوط اللعبة كلها في يد أمريكا وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي سيبقى مكانه كممول اقتصادي.. أياً كانت محاولاته لتجاوز هذا الدور المرسوم له)!! ثم ختم تصريحاته المذهلة حقاً.. ب «فتوى» لا تقل عجباً عندما قال ب(أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه الاعتراف بشكل منفرد بدولة فلسطين حال إعلانها.. بصورة أحادية الجانب من قِبَل الفلسطينيين)!! وهو يؤكد - وكأنه أحد وزراء خارجية أي دولة من دول الاتحاد وليس ديبلوماسياً عربياً بمكتب الجامعة في العاصمة البلجيكية بروكسل - ب(أن الاتحاد الأوروبي حال إقرار مثل هذا المشروع لن يبادر بإحالته إلى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن كمشروع دولي.. لطرحه والتصويت عليه، كما لن يتخذ إجراءات ضاغطة أو عقابية على إسرائيل)!!.. ثم اختتم تصريحاته المقززة بشيء من الموضوعية أو العقلانية عندما قال (إن وزراء الخارجية قد لا يوافقون على القرار بصورة واضحة، وقد تتم إحالته إلى القمة الأوروبية التي ستعقد ببروكسل 10 و11 ديسمبر، وهي القمة التي ستختتم بها السويد فترة رئاستها للاتحاد)..!!
لقد نسي هذا الديبلوماسي العربي الفهلوي «المتذاكي».. أن هناك دولة أكثر صغراً من شقيقتها: «السويد».. اسمها «النرويج»، فعلت ما لم يفعله «الكبار» في قضية الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي.. عندما أنقذ وزير خارجيتها الراحل والمأسوف عليه «يوهان يورغان هولست»- بعد مؤتمر مدريد- ومحادثات العشرين شهراً المتعثرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قلب الخارجية الأمريكية في «واشنطون» وإلى أن انتهت بهم إلى «كوروديراتها».. ب «اتفاق أوسلو»، الذي بهر الرئاسة الأمريكية بعد التوقيع عليه بالأحرف الأولى من طرفيه (الإسرائيلي والفلسطيني في 20-8-1993م).. فخطفته لتحتفي ب»التوقيع» عليه شكلياً في البيت الأبيض في 13-9-1993م، وتزين به أولى سنوات رئاستها الديمقراطية الجديدة مع «بيل كلينتون»، والذي بموجبه عادت القيادات الفلسطينية المحَاربة والمهجّرة والمطاردة إلى أريحا وغزة، وبموجبه.. قامت السلطة الفلسطينية في رام الله، وبموجبه جرت انتخابات المجلس التشريعي فالرئاسة الفلسطينية.. حتى في «القدس الشرقية» التي تطالب مبادرة «كارل بيلدت» السويدية ب «إعلانها» عاصمة لفلسطين.. ثم مات كل شيء مع اغتيال «رابين»..؟
كما تغافل هذا الديبلوماسي الخارق عن حالة الغيبوبة التي يعيشها العالمان: العربي والإسلامي، وعن حالة الانشغال العربي والإسلامي ب «أوبئته» السياسية التي يغوص فيها - وهو لا يدري إن كانت طبيعية.. أم أنها بفعل فاعل - حتى نسي دوره العربي والإسلامي، ومسؤولياته القومية والدينية.. لتبيت «فلسطين» الجريحة دائماً.. والنازفة من دمائها أبداً وكأنها بلا «أشقاء» من دمها، أو «إخوة» من دينها، كما سقطت من ذاكرته.. تلك المشاهد التي تنقلها شاشات الفضائيات على مدى نشرات أخبارها في الليل والنهار عن هدم منازل «المقدسيين»، والاستيلاء على أحيائهم وتهجيرهم منها، وقتل وسجن.. من يعارض منهم، بل ومنعهم حتى من صلاة الجمعة.. التي تجعل الفلسطينيين أحوج ما يكونون إلى هذه المبادرة السويدية، أو حتى لأقل منها.. وسط هذا النسيان العالمي والعربي والإسلامي لهم ولقضيتهم.
وإذا كانت نتائج «مؤتمر» وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، ف»قمتهم» اللاحقة له في العاشر والحادي عشر من الشهر الماضي.. لم تكن على قدر «دفاع» وزير الخارجية السويدي «كارل بيلدت» المستميت عن «وثيقته»، في «الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين.. حال إعلان الدولة».. فإنها لم تكن من حسن الحظ متفقة مع معاول ذلك الديبلوماسي العربي في هدمها ونسفها من أساسها، فقد خرج بيان القمة الأوروبية (رغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الهائلة، وأصوات المتربحين والمتاجرين ب»معارضتهم» من دول الاتحاد الأوروبي.. الشرقيون منهم على وجه الخصوص، إلى جانب الإمّعات من أمثال وزير خارجية الرئيس «بيرلوسكوني» - ولا أقول إيطاليا - «فرانكو فرايتيني»).. متوازناً ومقبولاً في ظل تلك الضغوط الثقيلة التي تعرض لها، فقد نص بيان القمة الأوروبية المعدل.. قائلاً: «لتحقيق سلام حقيقي، يجب إيجاد وسيلة لحل وضع القدس.. باعتبارها عاصمة للدولتين في المستقبل»..!! فرغم ميوعة النص وبرودته إلا أن «اعتبار» القدس الذي أشار إليه البيان.. ب»أنها عاصمة للدولتين في المستقبل» يظل له أهميته القصوى أمام الاحتلال الإسرائيلي الفعلي ل»المدينة»، ودعاوى حكومتها المستمرة بأنها «العاصمة الأبدية الموحدة» لإسرائيل، والدعم الأمريكي السياسي والعسكري السري لهذا التوجه.. رغم «الهامش» الذي حرصت الولايات المتحدة على الاحتفاظ به لنفسها ل»تراوغ» به أصدقاءها العرب والمسلمين الذين ينتظرون رحمتها أو لتضحك به عليهم كلما أثير موضوع «القدس»، والمتمثل في تصريح مسؤوليها «الدائم» و»المبرمج» في هذين المؤتمرين.. وفي غيرهما: بأن «مصير القدس يجب أن يحل خلال مفاوضات الوضع النهائي».. التي قد لا تحدث، أو لن تحدث..!!
لكن المدهش حقاً.. لمتابعي ومراقبي أحداث هذه «المبادرة السويدية» الشجاعة والجريئة، التي أطلقها «كارل بيلدت» حتى ولو كان في آخر أسبوع أو آخر يوم من أيام رئاسة السويد للاتحاد الأوروبي.. هو هذا الصمت العربي والإسلامي المخجل والمريب الذي قوبلت به.. إذا استثنينا «الأردن»، وموقفه المؤيد والمرحب بالمبادرة.. الذي أعلنه وزير خارجيتها السيد ناصر جودة عندما قال: ب»أن البيان الأوروبي عبّر بكل وضوح أن القدس عاصمة للدولتين.. وهذا أمر هام جداً»، ولكن أين بقية العربان؟ وأين المسلمون الصائحون: نفديك يا قدس.. بأرواحنا..؟ وأين لجنة القدس العربية التي نسيها العالم العربي من طول غيابها..؟ وأين الجامعة العربية نفسها ولجنتها لمتابعة مبادرة السلام العربية..؟ وأين منظمة المؤتمر الإسلامي التي قامت في أساسها لنجدة «المسجد الأقصى» بعد الحريق الإسرائيلي المدبر الذي تعرض له عام 1969م..؟ فهل كان هذا «الصمت» صدى لاستخفاف ذلك الديبلوماسي العربي ب «المبادرة»، والتقليل من شأنها.. بل وتقريع صاحبها لأنه ظل صامتاً طوال رئاسة دولته للاتحاد الأوروبي، ومنفذاً لإرادات الدول الكبرى.. ولم ينطق إلا قبيل أسابيع من نهايتها. أم أنه تأييد له.. أم أنه حرص على عدم إغضاب «الكبار» القادرين وحدهم على تحريك أحجار الشطرنج فوق رِقعته، متى وكيفما يشاؤون..؟. أخذاً بالحكمة القائلة: «لا ينسب إلى ساكت.. قول»..!
إذا كان هذا أو ذاك.. فإننا عرباً ومسلمين.. قدمنا بصمتنا المخجل أمام تلك المبادرة السويدية العظيمة: «كوميديا سوداء».. من طراز فريد لن ينساها لنا العالم، ولن ينساها لنا.. الشرفاء الذين يساندون قضايانا فيه.
ومعذرة.. يا معالي أمين الجامعة العربية (الأستاذ عمرو موسى) ونحن نعرف وطنيتك الصادقة، ونقدر عروبتك الخالصة، ونستشف معاناتك - وإن لم تبح بها - مع اثنين وعشرين دولة.. تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى - فهم ما يزالون رغم المتغيرات الكونية الكبرى وزوال من زال وبقاء من بقي.. لا يستقون من بئر واحدة - إن سألناك: أكان حقاً ذلك التوصيف الذي عرَّف به ذلك «الديبلوماسي» نفسه للصحافة.. من أنه «عربي» وأنه يعمل ب «مكتب الجامعة العربية» في بروكسل.. في صدر حديثه الذي أدلى به حول «المبادرة السويدية»، وتناقلته بالتأكيد وكالات الأنباء الأجنبية قبل العربية، واطلعت عليه بحكم مسؤولياتك واهتمامك.. قبل موقعك..؟
فإذا كان ذلك كذلك.. فإن «تذكيره» بما قلناه ويقوله كل الشرفاء من حملة الأقلام، أو «لومه» على ما بدر منه، أو حتى «تقريعه» على ما ارتكبه من حماقات ديبلوماسية مؤسفة ضد دولة صديقة، أرادت أن تبادر لمساعدتنا في محنة احتلال «مدينتنا المقدسة» والادعاء بتملكها إلى الأبد.. فكان جزاؤها جزاء «سنمار».. ليس كافياً، ف»التذكير» و»اللوم».. وحتى «التقريع» إنما يكون ل»الأسوياء» من الناس، ولسنا نعتقد بأن ديبلوماسينا المتذاكي هذا - وبكل أسف - منهم، فهو أقرب ما يكون إلى أولئك الذين قيل عنهم ب»أنهم يلبسون ملابس الصيف في الشتاء، وملابس الشتاء.. في الصيف»!!
إن الأمر متروك ل»حكمتكم» وحسن رأي معاليكم.. مع التحية والتقدير!