وعموماً، تمثل هذه الممارسات في مجموعها جزءاً من أساليب الجماعة في إعادة تشكيل الهوية لمجنديها.. إذ تبدأ الجماعة بعد النجاح في استدراج العضو للانضمام لها بتقويض هويته التي قدم بها.. ثم إعادة تشكيلها عن طريق إلزامه.
بالامتثال لتوجيهات القيادة ومطالبها وتشرُّب أيدلوجيتها.
يقول عالم النفس الاجتماعي ديفيد فورسيث (1999) والمهتم بدراسة ديناميات الجماعات في معرض وصفه للتكتيكات المستخدمة في تجنيد الفرق والنحل الدينية والسياسية لأتباعها، (بأن مثل هذه الفرق تصر على اعتناق الأعضاء فيها لأيدلوجية الجماعة.. فتكتفي في البدء بمطالبة المجندين الجدد بالانصياع.. كأن يُطالب المجندون بالمشاركة في مهام جماعية مبهجة ويعاملون بطريقة إيجابية دافئة.. وبمجرد موافقتهم على الانضمام للجماعة في شكل زيارات مطولة، فإن القدامى من الأعضاء يضايقونهم بحرمانهم من النوم وإرباك نظامهم الغذائي وإقناعهم بالمشاركة في أنشطة بدنية منشطة.. ويُعزل المجندون عن الأقارب والأصدقاء مخافة أن يمارسوا تأثيراً عليهم، يدفعهم إلى الردة عن الانضمام للجماعة الجديدة.. ويعرضون لمحاضرات ويطلب منهم المشاركة في مناقشات جماعية.. والانصياع لهذه المطالب الصغيرة يعقبه مطالب كبيرة.. بالتالي يوافق المجندون الجدد باختيارهم على التضحية الشخصية في سبيل الجماعة.. وهذه التضحيات تؤصِّل لاندماج أكبر مع اتجاهاتهم الجديدة.. وبمجرد بلوغهم مرحلة الاندماج، فإنهم بذلك قد استدخلوا تماماً أيدلوجية وأهداف الجماعة)، (19, ص 225-224).. وهكذا، عند بلوغ المجند الجديد هذا المستوى من الأدلجة تطمئن الجماعة من أن العضو أصبح أسيراً في قبضتها.. وتتأكد من قابليته للانصياع لمطالبها.. وتنفيذ أوامر قادتها عن اختيار وطواعية.
وتجدر الإشارة إلى أن مفتاح الفاعلية في التجنيد لهذه الجماعات يتمثَّل في حرص الجماعة الشديد على أن تبقي المجند الجديد غير واعٍ بأنه مستخدم وموضع تحكُّم من قِبلها.. إذ ينصب الاهتمام في البدء على إبعاده عن إدراك أنه يتحرك عبر مسار من التغير والتحول لما فيه خدمة مصالح ليست في صالحه. وتحافظ الجماعة على هذا المستوى من الوعي طوال فترة التجنيد.. وقد يعي المجند بذلك بعد أن يستقر به الأمر كمشارك فاعل في التنظيم، فيساير ما دام أنه راضٍ، أو قد يعي بذلك بعد أن يتورط وهو غير راضٍ.. حينها، لات ساعة ندامة.. هذا، وقد لوحظت مشاعر الندم عند كثير من المجندين الذين تمت مقابلتهم بعد تخليهم عن أمثال هذه التنظيمات.. وبدوا وكأنهم تواً قد أدركوا حيلة أنهم كانوا أدوات مسخَّرة لخدمة مصالح غيرهم.
من جانب آخر، تشير أدبيات البحث في المجال إلى أن معظم من يجند لأعمال العنف والإرهاب شباب أسوياء لا يعانون كما يعتقد البعض من مشكلات نفسية أو اضطرابات عقلية.. يأتون من خلفيات اجتماعية عادية سوية.. لهم أماني وتطلعات وطموحات كما هي الحال مع غيرهم من أقرانهم.. وما يميزهم عن غيرهم ممن لم يتورط بمثل هذه الأعمال أن لهم من السمات الشخصية ما يساعد في الاستجابة المباشرة لمطالب مريديهم كالدوغماتية (أحادية التفكير) والصلابة النفسية والعصابية والتسلطية.. وخصائص أخرى تتعلق بطبيعة مطالب المرحلة العمرية لهم التي تسم معاشر الشباب كالعجلة والتسرع والحاجة لإثبات الذات وتحقيق الهوية والتطلع للمستقبل وغياب الهدف والرؤية والقصور في الخبرة للتعامل مع مطالب الحياة.. ويعتبر غياب الهوية والذي عادة ما يسم الصغار من الشباب عاملاً رئيساً في تسهيل الاستمالة في الانتماء لهذه التنظيمات.. إذ إن الهوية في مرحلة تشتت وعدم ثبات وبحاجة لإثبات.. وما لُوحظ على كثير ممن تورط في عمليات تفجير أنهم حديثو السن.. وقد ثبت بالبحث أن من يتسم من الأفراد بمثل هذه الخصائص أكثر استجابة للتجنيد من قِبل هذه الجماعات والتنظيمات التابعة لها.. إذ إن التنظيمات التابعة لهذه الجماعات محاضن جداً جاذبة، يجد فيها أمثال هؤلاء الشباب مرتعاً خصباً لإشباع ما يرغبون في إشباعه من حاجات تمليها خصائص ومطالب المرحلة العمرية لهم.
ولوصف إتيان الفعل الإرهابي كمخرج من مخرجات عملية التجنيد لمن ينتمي لجماعات الإرهاب نكتفي بوصف عالم النفس الاجتماعي ديفيد ماير من جامعة أوهايو الأمريكية له.. وهو ممن عنوا بدراسة الظاهرة علمياً.. إذ يؤكد ماير, (2008) بأن معظم من تورط في عمليات تفجير في مناطق مختلفة من العالم (الشرق الأوسط وبالي ومدريد ولندن) يُجندون بنفس طريقة التجنيد للفِرق والنحل والطوائف، التي تستمد أصولها من النموذج الصيني في التشريب القسري، (فهم أشخاص في مرحلة عمرية انتقالية بين المراهقة والكبر, يتعرضون لتأثير دعاة حازمين ذوي توجهات دينية متشددة.. يقومون على تشريبهم بمعتقدات تجعلهم يرون أنفسهم (شهداء أحياء) لا أمواتاً.. وأن قتلهم لأنفسهم ينطوي على بطولة ومآله إلى رحمة.. ولضمان تغلبهم على إرادة الحياة وبعث إرادة للموت بينهم قوية، يدفع كل مجند إلى الالتزام العلني.. فيكتب رسالة وداع خطية وأخرى على الفيديو تحدث لديه التزاماً سيكلوجياً بأنه (لا مناص من الإقدام ولا مجال للتراجع) عن ما عقد العزم عليه.. ويتم التجنيد غالباً في سياق عزلة نسبية لخلايا صغيرة ترى في نفسها الكمال، وتؤصِّل لكراهية من تراهم أعداء، تمارس تأثيرات جماعية على هؤلاء الأشخاص اليافعين، (5, ص 251).
***
... (يتبع الحلقة 4)
(*)أستاذ علم النفس الاجتماعي - جامعة الملك سعود - عضو الفريق العلمي - كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري