إذا كانت الكتب تُقرأ من عناوينها كما يقولون؛ فإن المدن التي نعيش فيها في هذا العصر، هي الأخرى لها عناوين، وعناوين عريضة ودالة. ويمكن أن تُقرأ من هذه العناوين. أسماء هذه المدن، وكذلك مداخلها ومخارجها، وميادينها ..
وأحياؤها، ومبانيها وشوارعها وحدائقها، وما تظهر أو تبطن، كل ذلك يشكل عناوين بارزة للمدن.
- الكتب تأخذ أسماءها لحظة ولادتها. اسم الكتاب عادة؛ يعبر عن مضامينه، وفيه دلالة على محتواه بشكل ما، حسب رؤية المؤلف ومزاجه العلمي. المدن كذلك، تكتسب أسماءها لحظة ولادتها؛ على الحالة التي كانت فيها قبل الولادة، أو قد تشطح بنظرها إلى البعيد، فتتسمى بما تطمح إليه وتتمنى وتريد.
لنأخذ جُدة على سبيل المثال. أخذت اسمها على ما يبدو من محاذاتها للبحر. فالجدد تعني فيما تعني: شاطئ البحر والنهر، وفي القرآن الكريم: {..جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ..}. الرياض حمل اسمها رمزية رياضها الخضر التي كانت عليها فيما سبق، والطائف سُميت على اسم طوفها الذي بناه أبناؤها حولها في العصر الجاهلي، لحمايتها من غزو البدو الرحل حولها.
- ماذا بعد الولادة..؟ كيف تنمو المدينة وتكبر..؟ وكيف نكتشف المدينة وهي كبيرة..؟
- مثلما تدخل إلى الكتاب، فتبدأ من غلافه، ثم تمخر فيه إلى مقدمته وأبوابه وفصوله وفهارسه، وتتوقف عند متنه وهامشه، أنت تدخل المدينة من هذه المدن، لتكتشف أن فيها ما يشبه الكتاب. تدخلها من إحدى بواباتها الطرفية، فطرف المدينة هو غلافها الذي يحمل سماتها. هناك مدينة تقدم نفسها من هذه البداية الطرفية، بخضرة ونضرة، وزهور وورود، وأناقة تنظيمية مبهجة، وهناك مدن أخرى، قد لا تلمح دالة عليها أكثر من الشوك والفوضى ومكبات القمائم.
- إذا ولجت مدينة من هذه أو تلك، لا تلبث أن تصبح كائناً يتحرك بين دفتي كتاب، ويتوقف بين متنه وهامشه، فيبتسم ساعة لمنظر فيه أو فكرة، ويأسف أخرى لما يُؤسف ويُحزن.
- كيف تحول بعض أجزاء أشهر المدن عندنا، إلى أحياء عشوائية، إن لم تكن هي في الأصل هامشية، ولم يخطر ببال المخططين والمنظمين ومزودي الخدمة في هذه المدن، على أنها في أهمية ومكانة الأحياء المتنية، التي تحظى برعايتهم ليل نهار، وتتمتع بالتنظيم والنظافة والعناية والخدمة الراقية..؟
- في جدة وحدها (57 حياً) عشوائياً، وفي مكة المكرمة ما يقترب من هذا العدد، وفي الطائف قرابة الثلاثين حياً، وأكثر ما تبرزه هذه الأحياء التعيسة البئيسة، التي أطلقوا عليها (عشوائية)، هو مشاهد الفقر والتخلف، وعلامات الإهمال والتناسي، وتكريس ثقافة الجريمة، فهي إما أنها أحياء قديمة، تركها من زهد فيها، وملّ منغصاتها اليومية، أو هي طرفية بعيدة عن المركز، ووظيفتها تنحصر في أنها تستقبل موجات الهجرات المتتالية من القرى والأرياف، فتوفر للمعدمين ومتواضعي الدخل، الحد الأدنى من مستويات الحياة الإنسانية، التي لا تعرف من المدنية سوى الطوب وزنك الحديد.
- في متون المدن، نجد الميادين الفسيحة، والواجهات الجميلة، والحدائق الغناء، والشوارع المزفتة، والأرصفة النظيفة، وأعمدة النور المضيئة، وخدمات الماء والكهرباء والهاتف والبريد، والأسواق الحديثة، والسيارات الفارهة، وتظهر للعيان، لمسات الفن المعماري، والنظافة العامة، والعناية بالصحة والتعليم، ومستويات كثيرة من خدمات الخمس نجوم.
- وفي هوامش المدن، لا نجد أكثر من غرف متراصة، مخصصة لسكن ذوي الدخل المحدود، الذين يدفعون لذوي الدخل غير المحدود، وميادين وشوارع ترابية، أو زنقات ضيقة مفصلة لعربات الكرو أيام زمان، أما أعمدة النور، فهي الحلم المستعصي على غير متون المدن، وخدمات الكهرباء والماء والهاتف، درجة عاشرة إن صح لها الدخول في تصنيف ما هو موجود في غيرها، في حين أن أحياء من هذه المكتوب عليها البقاء في الهامش، لا تشطح كثيراً في ممارسة أحلام لا تتحقق أصلاً، فالتنظيم البلدي الحلم، لم يكن موجوداً في مرحلة ولادتها، فكيف به وهي تحتضر..؟ والماء يسيح في أنابيب أحياء المتن قبل أن يصل إلى أنابيب الهامش التي أكلها الصدأ، وهو إذا قدر الله له ووصلها بعد تعنت وتمنع، عافها وعاد إلى غيرها، والفقر هو المشترك الذي يجمع بين الوجوه المتشابهة، والسيول تتربص بمن لم يجد مأوى له إلا أمتار قليلة، يمتريها من تاجر عقار، مغامر شجاع، عرف كيف يذرع بيديه ورجليه وعلاقاته الخاصة، أودية لا يملكها في الأساس، إلا السيل الذي كان يزور مسالكه بين وقت وآخر، فلم يخطر ببال السيل أن يأتي مسالكه ذات يوم، فيجدها مزروعة بأجساد الناس، ومغطاة بهياكل السيارات، ومسدودة بالطوب وتنك الزنك.
- لم أجد ما أسهم به في تفسير حالة تقسيم أجزاء المدينة الواحدة إلى هامشية ومتنية، إلا أن أضيف هذا الهامش على متنها والهامش، علّ عقلية إدارية فذة تأتي يوماً ما، فترفع الهامش إلى المتن، أو تخفض المتن إلى الهامش، حتى يتحقق الدمج بين الطرف والمركز، فتتحقق مع هذا الدمج، عدالة الإنسان لأخيه الإنسان، في الحي الواحد، وفي المدينة الواحدة.
assahm@maktoob.com