من دلالات قد.. أن حصول النتيجة المرجوة بعد حدوث كارثة أو فاجعة ما وخاصة الضار منها والمؤلم، ليست حتمية أكيدة، فربما يحصل المراد فتتحسن الأحوال وتزدان، وربما تبقى الحال على وضعها السابق وهنا يكون الألم مضاعفا وخيبة الأمل أشد وأنكى، وشواهد بقاء الحال كما سابقتها، معروف متواتر في أكثر من بلد، وفي أكثر من مكان وزمان، والأمر الذي لا يمكن تصوره وتسويغه، أن يكون المسؤول على علم بحال الفساد، ويزود بالبراهين والدلائل القاطعة الدالة على أن أحد النافذين في دائرته يتجاوز النظام، بل يهمل في تطبيق الشروط والمواصفات التي تم التعاقد عليها مع الطرف الآخر، وأنه يمد يده تحت الطاولة وفوق الطاولة، ومع ذلك يغض هذا المسؤول الطرف عن المفسد، ولا يحرك ساكنا تجاهه، ولهذا لا غرو أن يتجذر الفساد وينمو، ويتبجح الفاسدون ويتمادون، وتتسع دائرتهم ويكثرون.
إن من أشد الأمور إيلاماً، وأمضاها أذى للمشاعر والوجدان، أن ترى فاسداً مفسداً يتبختر ويتمايل وهو في حالة طرب وفرح، يتردد بكل بجاحة على مكتبه دون وجل أو خوف أو حياء، ومما يزيد من الإيلام والغيظ أن هؤلاء الفاسدين لا يشبعون، وأنهم عديمو الحياء، وأنهم لا يتورعون عن إظهار علامات الغنى والثراء التي تطرأ عليهم في كل شأن من شؤون حياتهم بسبب نهجهم غير المشروع وغير الأخلاقي في تسيير الأعمال وإدارتها، ومما لا شك فيه أن هؤلاء نشأوا وترعرعوا في بيئات عمل شجعتهم على نهج هذا السلوك المنحرف بسبب عدم المتابعة والمحاسبة.
ومن المتوقع أنه لو أخضع أحد هؤلاء المبتلين بالفساد إلى اختبار نفسي، لتبين حتماً أنه غير سوي، وأنه خارج دائرة الاتزان والسواء، غارق في أوحال من المفاهيم المشوهة المنحرفة، وهذه الحالة تفضي إلى تسويغ المخالفة، وعدم المبالاة للعواقب، وغض الطرف عن تقييم الأمور وتقديرها وفق مقتضيات الحق والعدل.
وطالما أن هؤلاء الفاسدين مضطربون، فلا غرو أن يؤتى أحدهم من بين يديه بعلمه، أو من خلفه وهو غافل لاهٍ، يؤتى من بين يديه طائعاً مختاراً، وهو في حالة سوية يدرك الأمور ويعرفها، يدرك تماماً أن أفعاله خاطئة، ويعلم ماذا يريد من ورائها، وبالتالي ينطبق عليه مقولة: «ياطى السريح عناد»، أي أنه يعلم أن ممارساته مخالفة للنظام والقانون ومع ذلك لا يتردد في تجاوزهما تحقيقا لمآربه وغاياته غير المشروعة، المهم عنده ماذا يحقق من المكاسب، حتى وإن كانت هذه المكاسب تفضي إلى إخلال بالعمل وتضييع للحق، وهو بهذا يرتكب جرمين، إخلال بالأمانة التي تحملها، وإفساد العمل الذي يفترض أن يؤديه على أكمل وجه وأتم صورة.
وقد يؤتي الفاسد من خلفه وهو في حال من الغفلة والإهمال وعدم المتابعة، وحال هذا الصنف مثل حال ذاك الذي لا يعرف هل الأمور «حادرة أم صادرة»، وفي كل الأحوال يخلف الله على الأعمال التي يديرها أمثال هؤلاء، سواء الذي يؤتى من بين يديه أو ذاك الذي يؤتى من خلفه، لأن كلا منهما يفتقد الأمانة والأهلية الشرعية والقانونية المؤهلة لتسنم المهمات وإدارة الأعمال، وبالتالي ظلم وعدوان أن يسند لأي منهما مهمة أو عمل مهما كانت قيمتهما، ومهما كانت طبيعة هذه المهمة أو العمل وحجمه.
لا شك أن النقص صفة ملازمة للبشر، وللنقص مداخل كثيرة، منها ما هو في أصل التكوين ومنها ما هو طارئ على الإنسان بفعل التنشئة والتربية، ومنها ما يرجع إلى البيئة المحيطة بالإنسان بما فيها من مغريات وشهوات.
لكن الفاسد لا يعاني من نقص في قدراته العقلية، ولا في مستوى استيعابه، فهو يدرك الواقع ويتعامل معه بكفاءة واقتدار، لكن لا ضير عنده أن يجعل نفسه مطية للراكبين، وجسراً لتمرير ما لا يتوافق مع النظام، ولا القيم المجتمعية والمعايير الأخلاقية المعتبرة.
فهل تجتث أسس جسور الفساد؟ المؤشرات تدل على أن (قد) إيجابية وحازمة.