الجزيرة - د. حسن الشقطي
إذا سأل سائل هل السعر الحالي للنفط عادل أم غير عادل؟ ستجد إجابات متباينة بشكل صارخ.. البعض يقول إنه الآن عند مستوى عادل وهذا هو منطق كافة الدول المنتجة والمدافعين عنها.. على النقيض البعض الآخر يقول إنه سعر غير عادل ويزيد كثيراً عن الحدود المقبولة وهذا منطق كافة الدول المستهلكة والحريصين على مصالحها.. فكل مستهلك في الدول الغربية اعتاد على الحصول على منتجات الطاقة أو الوقود بأسعار زهيدة بشكل قد لا يبرر معه استخراج المزيد من النفط لأن الأجيال القادمة ستفتقد عنصر الحياة نتيجة المبالغة في استخراج كميات أعلى مما يجب منه.. ونظراً لظروف خاصة ارتبطت باحتكار الشركات الكبرى أو سيطرة الدول الصناعية على تقنيات الإنتاج والاستخراج، فقد قبلت الدول المنتجة للبترول لفترات طويلة أسعاراً غير عادلة تحت دعاوى أن ارتفاع أسعار النفط ستتسبب في أضرار بالغة للدول المنتجة جراء ارتفاع فاتورة وارداتها نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج بالدول الصناعية.. في اعتقادي أن هذه الفرضية الأخيرة قد دحرتها الدول المنتجة من طريقها وهي تسعى الآن بكل جد إلى اكتساب سعر عادل لا يقل عن 60 دولاراً للبرميل بأي حال من الأحوال.. وليست التصريحات الجدية التي صدرت عن وزراء (أوابك) قبل أيام ببعيد عن مغزى الاتفاق الضمني على عدم زيادة سقف الإنتاج عن المستوى الحالي الذي يدور حول 24.8 مليون برميل يومياً.. ولكن السؤال الأهم: علام تعول هذه الدول المنتجة في ضمان بقاء السعر العالمي للنفط فوق مستويات الـ60 أو بالأحرى فوق الـ70 دولاراً؟ ولماذا هي تتمسك بهذا المستوى الذي تراه عادلاً الآن بالتحديد؟.
بداية فإن سوق النفط يخضع خلال هذه الفترة للتأثر بعنصرين هامين للغاية، أحدهما معتاد والآخر مستجد.. فبداية نحن مقبلون على فصل الشتاء ببرده القارص والذي يزداد اشتداداً من موسم لآخر، والذي يخلق المزيد من الطلب على منتجات الوقود، بل يتسبب في قلق نفسي لدى كافة الدول المستهلكة، وبخاصة في ظل الإعلان عن تراجع مخزونات النفط لدى الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.. أما العنصر الجديد والذي أصبح أكثر أهمية، فهو ظهور المضاربين كلاعبين رئيسيين في سوق النفط، والذين لم نكن نسمع عن دور ذي قيمة لهم من قبل.. فسوق النفط ذو طبيعة خاصة، سيطر عليه المستهلكون منذ فترات بعيدة، وهو السوق الوحيد على مستوى كافة السلع الذي يقول المستهلكون فيه كلمتهم قبل المنتجين رغم الأهمية القصوى للمنتج (النفط)، فهو منتج ضروري وليس كمالياً.. أيضا يتصف سوق النفط بفشل كافة الجهود الدولية لإيجاد بدائل تجارية له.. بل لطالما غاب سوق النفط عن الأخذ بالمعايير التي تأخذ بها السلع والخدمات الأخرى، فلا دور لقوى السوق، ولا أحد يبحث عن التوازن في سوق النفط. ومنذ سنوات قليلة لم يكن يتحدث أحد عن السعر العادل للنفط.. وما هو أهم أن منظمة التجارة العالمية تستبعد هذا المنتج من حساباتها، وتنظر إليه فقط من باب الوجاهة البرتوكولية، إلا أنها لم تأخذه في مفاوضاتها مأخذ الجد، فعلى سبيل المثال لم نسمع عن خلاف حقيقي في المفاوضات حول تحرير منتجات النفط مثلما سمعنا عن الخلافات والمفاوضات الطويلة التي استمرت أكثر من عشرين عاماً حول المنتجات الزراعية أو منتجات الخدمات مثلاً.
فالمهم أن المضاربين أصبحوا يمثلون لاعباً جديداً في سوق النفط الذي لطالما غاب عنه الدور الفاعل لقوى العرض والطلب.. وتظهر أهمية المضاربات في سوق النفط الآن في ظهور عنصر جديد خارج سيطرة المستهلكين يمكن أن يعكر صفو ضغوطها لتحديد مستويات سعرية أقل لوارداتها النفطية.. وفي اعتقادي أن الدول المنتجة بقيادة (أوابك) أصبحت تجد دعماً قوياً من هؤلاء المضاربين في الحفاظ على حد أدنى تراه عادلاً لسعر النفط، ولن يستطيع أحد توجيه الشكوك إليها في أنها تسعى إلى الإخلال بالتوازن في سوق النفط كما كان يحدث من قبل.
إلا أنه رغم كل ذلك، فإن سوق النفط ليس بالسهولة التي تحض على التفاؤل التام في استفادة الدول المنتجة من هذا السعر العادل، لأن عملية تسعير النفط تخضع لقيود واشتراطات تحكمية ربما تقلل من حجم المنفعة القصوى للدول المنتجة من صادراتها النفطية، وبخاصة إذا علمنا أن الصادرات النفطية الحالية لبعض الدول تخضع لتعاقدات قد تكون في بعض الأحيان قديمة لدرجة أنها تكون أبعد ما تكون عن السعر الحالي.. بمعنى أن الاعتماد على التصدير في سياق صفقات المضاربين لا يزال لا يمثل سوى نسب طفيفة في سوق النفط، في حين أن الصفقات الرئيسية لا تزال تتم من خلال التعاقدات والتي غالباً ما تكون طويلة المدى.
إلا أنه مع ذلك، فإن اشتداد المضاربات سيكون قادراً على خلق أبعاد إيجابية عديدة للدول المنتجة للنفط، أهمها أنها ستضع نصب عينيها أسعارا أعلى في تعاقداتها الجديدة، كما أن قدراتها على التفاوض ستصبح أقوى، كما ستكون حريصة على عدم الدخول في تعاقدات لفترات طويلة مستقبلا، ثم إن ذلك يفتح الباب للتفاوض لتحديد السعر حسب المستويات الفورية مستقبلا.. أي أننا قد نكون على وشك تحرير حقيقي لسوق النفط ليصبح مثله مثل القطن أو الذرة أو الأرز والتي تأخذ نصيبها العادل من التعرض لقوى العرض والطلب بشكل حقيقي.