السؤال الآن ليس هل ستغرق جدة؟..
لكن السؤال متى ستغرق؟..
ويتبع ذلك سؤال آخر.. كم ستكون فاتورة هذا الغرق؟.. كم من الأرواح ستذهب؟.. وكم من الممتلكات ستختفي.؟
ولكن يجب أن نشير هنا إلى أن كارثة جديدة لا قدر الله ستغير من خارطة التفكير السعودي، وستنقل الناس إلى حالة جديدة غير مسبوقة أبداً.. ويكفي أن الكارثة رقم واحد قد غيرت مفاهيم، وبدلت أنماط، وشكلت آراء لم تكن واردة في الذهنية السعودية.. أما الكارثة رقم اثنين -لا قدر الله- فستكون مختلفة كماً ونوعاً، وستفرض واقعاً مختلفاً، ومسؤوليات جديدة.
لقد قضيت عدة أيام في جدة وتحدثت إلى عدد من الناس ممن لامس الكارثة أو كان يشاهدها أو ممن يفكر فيها وفي أبعادها وتداعياتها.. كما كنت كغيري من الناس نتابع وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية وهي تحلل وتتهم وتحذر وتقصي.. والجميع يشير إلى وجود خلل كبير في عمل المؤسسات التنفيذية المناط بها خدمة سكان مدينة جدة.. والجميع يضع سيناريو التقصير، وسيناريو العقاب، وسيناريو المسؤولية.. هنا أو هناك، اليوم أو أمس، في جدة أو في مكان آخر..
ولاشك أن العلامة الفارقة والحدث الكبير الموازي لحادث الكارثة هو صدور الأمر الملكي الكريم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتشكيل لجنة تقصي برئاسة الأمير خالد الفيصل الأمير الجديد الذي أنيط به مسؤولية هذه المنطقة مؤخراً.. ومعه فريق من جميع الجهات الاستقصائية في الدولة.. ويمكن أن يكون هذا التشكيل لمثل هذه اللجنة منعطفاً مهماً في تاريخ المساءلات السعودية المعلنة.. وكانت هذه اللجنة العزاء الأول لمنكوبي هذه الكارثة، حيث إن العزاء الأخير بطبيعة الحال سيتضح من نتائج تحقيقات هذه اللجنة.
ويظل السؤال القائم في ذهن أبناء وبنات جدة: متى ستغرق جدة؟ وقد تحول تفكير الناس من سؤال سابق ربما دار في أذهانهم: هل ستغرق جدة؟ ولاشك أن سؤال (متى) يعنى أن الخطر قادم، وربما يكون في أي لحظة من اللحظات.. ولن يكفي لدرء هذا الخطر أن تعلن الأرصاد الجوية عن احتمال هطول أمطار جديدة، ليطلق الدفاع المدني صافراته في أحياء جدة الشرقية.. طبعاً هذا لن يكفي، لأن انفجار ما يسمى ببحيرة المسك سيشكل كارثة بشرية وبيئية غير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط وربما في العالم.. وستتغير ملامح جدة بشكل كامل لا قدر الله.
وبينما الجميع ينتظر نتائج أعمال وتحقيقات اللجنة التي تعمل على معرفة السبل التي أودت بجدة إلى هذه الكارثة، ينتظر المواطنون سبل الخروج من أزمة الخطر المحدق بهذه المدينة.. فما شاهدناه في الإعلام الرسمي وفي الإنترنت وخاصة من لقطات مفزعة ومؤثرة على اليوتيوب تعطي دلالة على حجم الكارثة التي حدثت في جدة، ولكنها في نفس الوقت تشير بقوة إلى خطر جديد يهدد الحياة بكل تفاصيلها في عروس البحر كما يشاء بعض الحالمين بتسميتها بذلك.. ولكن الأسماء الحالمة لهذه المدينة تساقطت واحداً بعد الآخر.. ولم يعد مفهوم «جدة غير» قابلاً للتداول الآن.. إلا أن يكون هناك سر داخل هذه التسمية، مقصود به أن جدة هي غير المدن الأخرى في فساد إداري غير موجود ربما في باقي المدن الأخرى.
جدة تغيرت، ونحن نعلم أن غرف الطوارئ تعمل ليل نهار في كافة الأجهزة المعنية، وهناك غرفة طوارئ مركزية مستمرة برئاسة الأمير خالد الفيصل.. ولكن ربما أن جدة تحتاج إلى غرفة طوارئ إعلامية وشركات علاقات عامة ترمم ما لحقها من تشويه وصدأ، حولها من المدينة الحالمة إلى المدينة المنكوبة.. ربما من المهم أن تعمل مثل هذه الغرفة الإعلامية في قراءة وتحليل ما كتب عن جدة، وتحاول أن تبني لها صورة جديدة.. ولكن يجب أيضاً أن تترقب غرفة الطوارئ الإعلامية الخطر الذي سيتهدد جدة بين لحظة وأخرى.
أخيراً وليس آخراً، يجب أيضاً أن نكون عقلانيين في نظرتنا إلى هذه الكارثة، فالبعض من خارج الحدود حمل المؤسسة السياسية تبعات الفساد الذي أدى إلى وضعية جدة وتهالك أو غياب بنياتها التحتية.. ويجب أن تكون المسؤولية موجهة لأصحاب المسؤولية المباشرة في الأجهزة التنفيذية.. وهذا هو الشكل الطبيعي لتحمل المسؤولية مهما كانت.. فالقيادة تجتهد في اختيار الأشخاص، ولكن الأشخاص هم مسؤولون عن إدارة شئون ومهام عملهم.. فإذا حدثت أخطاء فهي نتيجة تقصير المسؤولين المباشرين في تلك الأجهزة، ولا يجب أن يتعدى إلى من هو خارج المسؤولية المباشرة.. وتدخل في المسؤولية أجهزة المراقبة والمتابعة الإدارية.. وما ننتظره فعلاً، وهذا ما أشار إليه الأمير خالد الفيصل الخميس الماضي، هو أن ننظر إلى مستقبل هذه المدينة وإلى الحلول الإستراتيجية التي تبدأ من جديد في تأسيس بنى تحتية تحميها من الكوارث الطبيعية.. وربما تشكيل لجنة أخرى على مستوى كبير للتخطيط لمثل هذه الحلول مطلوب وبأسرع وقت ممكن.
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkami@ksu.edu.sa