Al Jazirah NewsPaper Friday  01/01/2010 G Issue 13609
الجمعة 15 محرم 1431   العدد  13609
 
فقه النصيحة
د. محمد بن إبراهيم الحمد *

 

النصيحة كلمة عظيمة موحية تحمل في طياتها معانيَ الودِّ، والصدق، والإخلاص، والرحمة، والشفقةِ، وتَطَلُّبِ الكمالِ، وحبِّ الخير، وما جرى مجرى ذلك من المعاني الجميلة.

فلا غرو - إذاً - أن يُحْصَر الدين بالنصيحة كما جاء في صحيح مسلم من حديث تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة).

قالوا لمن يا رسول الله؟

قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).

فأهل الإسلام حقاً ينصحون لله إيماناً به، وقياماً بحقه، وعبوديةً له ظاهراً وباطناً.

وينصحون لكتاب الله بالإقبال عليه تلاوةً، وحفظاً، وتدبراً، وتعلماً لألفاظه ومعانيه، وعملاً به، ودعوة للناس إليه.

وينصحون للرسول -صلى الله عليه وسلم- بمحبته، وتعظيمه، وتوقيره، والاقتداء به، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والذب عنه، ونصرة دينه، وتقديم قوله على قول كل أحد من البشر.

وينصحون أئمة المسلمين - من الإمام الأعظم إلى من دونه ممن لهم ولاية خاصة أو عامة - باعتقاد ولايتهم، وبالسمع والطاعة لهم بالمعروف، وببذل المستطاع لإرشادهم، وتنبيههم إلى ما فيه صلاحهم وصلاح الأمة جمعاء، وبنصحهم وتحذيرهم مما فيه ضرر عليهم وعلى الأمة.

وينصحون لعامة المسلمين بمحبتهم، ومحبة الخير لهم، والسعي في إيصال النفع لهم، وبكراهية الشر والمكروه لهم، والسعي في دفعه ودفع أسبابه عنهم.

وينصحون لهم - أيضاً - بتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم، والتعاون معهم على البر والتقوى.

فإذا كانت النصيحة بهذه المثابة فأحْرِ بالعاقل أن يَحْفَلَ بها، وأن يَقْدُرَها قَدْرَها، وأن يتفقه في شأنها.

والحديث ههنا ليس مجال بسط، وإنما هو إشارات حول بعض الأمور في شأن النصيحة، خصوصاً نصيحةَ الناس.

فمما ينبغي التنبيه عليه في باب النصيحة استشعارُ الرحمة بالمنصوح، وحبُّ الخير له؛ فليست النصيحة حِمْلاً يريد باذلُها إلقاءه عن نفسه فحسب، بل لا بد أن يستشعر -في أدائها- معنى الرحمة، وحبَّ الخير، ومحاولةَ الإصلاح؛ فذلك يدعوه إلى مزيد من الرفق، والتلطف، والمداراة، وحسن المدخل.

ومن ذلك أن لا ينصح الإنسان على شرط القبول؛ فإذا لم تقبل نصيحته أزرى بالمنصوح، واتهمه بالكبر، والتعجرف.

قال ابن حزم -رحمه الله-: (لا تنصَحْ على شرط القبول، ولا تشفَعْ على شرط الإجابة، لكن على استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة، والشفاعة، وبذل المعروف).

ومما يدعو لقبول النصيحة تنوع طرقها؛ فمن ذلك الإسرار بالنصيحة، واستعمال المداراة فيها، والثناء على المنصوح، وتذكيره بسلفه، وأياديه البيضاء، وإنزاله منزلته اللائقة به، والحذر كل الحذر من السخرية أو الشماتة به؛ فذلك مما يفتح قلبه، ويرهف عزمه، ويثير همته.

ومما تجدر الإشارة إليه في باب النصيحة مسألة أسلوبها، فذلك باب عظيم قلَّ من يحسن الدخول فيه؛ إذ إن كثيراً من الناس يظن أن النصيحة تلقى في أي صورة كانت دون مراعاة لزمنها، ومكانها، وذوقها، وما تقتضيه مقامات الناس وأحوالهم.

فالناصح في دين الله يحتاج إلى علمٍ، وعقل، ورَويَّة حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة.

وإن لم تكن فيه تلك الخصال كان الخطأ أسرع إليه من الصواب.

وما من مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة.

فلا غرو إذاً أن تقبل النفوس على نصيحة شخص، وترتاح إليه ارتياح الربى لِقَطْرِ الهواتن، وتسيغه إساغة الظمآن للماء القراح.

وتُدْبِرَ عن نصيحة آخر، فتزلَّ نصيحته عن القلوب كما زَلَّتِ الصفواءُ بالمتنزل.

ومما يحسن التنبيه إليه في باب النصيحة قلة التواصي بها؛ فذلك يدعو إلى التمادي في الباطل، وإِلْفِه، وترك محاولة الرقي إلى المعالي.

ومن ذلك التكبر عن قبول النصيحة الهادفة، والنقد البناء؛ فقد يبذلها ناصح أمين، وناقد بصير، ولكن لا تجد أفئدةً مصغيةً، ولا آذاناً مصيخة، بل قد يتكبر المنصوح، ويتعاظم في نفسه، ويستنكف عن قبول النصيحة، فيستمر على خطئه، ويعز علاجه، واستصلاحه.

وأخيراً فإنه يحسن بمن نُصح أن يتقبل النصح، وأن يأخذ به؛ حتى يكمل سؤدده، وتتم مروءته، ويتناهى فضله.

ينبغي لمتطلب الكمال - خصوصاً إذا كان رأساً مطاعاً - أن يتقدم إلى خواصه، وثقاته، ومَنْ كان يسكن إلى عقله من خدمه وحاشيته - فَيَأْمُرَهم أن يتفقدوا عيوبه ونقائصه، ويُطْلِعوه عليها، ويُعْلِمُوه بها؛ فهذا مما يبعثه للتنزه من العيوب، والتطهر من دنسها.

بل ينبغي له أن يتلقى من يهدي إليه شيئاً من عيوبه بالبِشر والقبول، ويظهر له الفرح والسرور بما أطلعه عليه.

بل المستحسن أن يُجيزَ الذي يوقفه على عيوبه أكثر مما يجيز المادح على المدح والثناء الجميل، ويشكرَ من ينبهه على نقصه، ويتحملَ لومته بفعله؛ فإنه إذا لزم هذه الطريقة، وعرف بها أسرع أصحابه وخواصه إلى تنبيهه على عيوبه.

وإذا نُبِّه على ما فيه من النقص أَنِفَ منه, واستشعر أن أولئك سيعيرونه به, ويصغرونه من أجله؛ فيلزمه حينئذ أن يأخذ نفسه بالتنزه من العيوب، ويقهرَها على التخلص منها؛ فإصلاح النفس لا يتم بتجاهل عيوبها، ولا بإلقاء الستار عليها.

* الزلفي



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد