إعداد: رشا ملحم – لبنان :
تعدّدت خيارات الفنان اللبناني في انتقاء المادة للتعبير عن مكنوناته, واتسعت أفق تطلعاته، وازداد شعوره بالتحدّي واخضاع العمل الفني للاختبار والتجربة, وغدت المنحوتة لغة خاصة بالفنان حُفرت بالإزميل والمطرقة وتشكّلت بخطوط وأشكال متنوعة اختصرت أفكاره وثقافته..
ومع اقتحام التجريد عالم النحت اللبناني, طرحت أسئلة لطالما شغلت بال الفنان المعاصر, فعالج موضوعاته بكثير من البساطة الخطوطية, فوصلت بعضها إلى الأسلبة مع التأكيد على البعد الروحاني للعمل وزاد الاهتمام بالحركة والكتلة وعملية التكوين, كما توزّعت أماكن العرض بين الداخل والخارج..
الخامة والأسلوب:
تنوّعت المواد والتقنيات والأساليب المستخدمة في المنحوتات اللبنانية, الهاجس الذي سيطر في تحديد مسار العمل بما يتّفق مع الرؤيا الجديدة للإنسان المعاصر. وخلقت أبعاداً تشكيلية جديدة, غيّرت مفهوم المادة, الأسلوب والشكل, العوامل التي دفعت الفنان إلى التجريد.. استفاد الفنان من مختلف المواد التقليدية منها والحديثة, واغتنت بها الساحة التشكيلية وتزاوجت مع إبداعه, فكان لها وقعها الخاص, فتفاعل معها وتحوّلت معه من مادة صلبة إلى مرنة قابلة للتحوير والتشكيل..
وَلَهَ الفنان للبحث عن الشكل في مادة الحجر لكثرة توافرها في الطبيعة المحلية, واستفاد من غنى ملمسها، فالبعض همّ بنحتها من دون سابق تصميم كالإخوة بصبوص, او خضعت لعملية حسابية دقيقة دون ترك للمصادفة مكان, مثل أعمال سلوى روضة شقير وزافين هاديشيان(الرخام), أما ألفرد بصبوص, أحد أعمدة النحت التجريدي اللبناني, فكان يدرس المادة وعلاقتها مع الضوء ومدى طواعيتها ويطوّرها ليستقر على شكلها النهائي.
وتأتي بالدرجة الثانية مادة الخشب وهي متوفّرة أيضاً فنُحت خشب الأرز والبطم والزيتون. مزجت سلوى شقير بين أنواع الخشب وألوانه خاصة في ثنائياتها التركيبية, فتعانقت القطع مكونة كتلة واحدة غنيّة بالألوان جُمعت على مسطح واحد, تحتل المادة عندها المرتبة الثانية بعد الشكل والكتلة, أما ميشال بصبوص فقد احترم الخامة وحافظ على مسامها في بعض الأحيان, وأحياناً لم يستجب لندائها.
أما الحديد, فتعددت طرق الاستفادة منه, إما بأسلاكه كمنحوتات ريمون خوّام التي تدلّت من السقوف واغتنت بالتوازنات القضبانية الحديدة الملتوية فوفّرت حركة دائرية للعمل. وأعمال الفونس فيليبس خرجت قضبانه من حدود الكتلة, فتحررت وتعدّدت فيها الرؤية, وضمت عناصر سوريالية, وخطوط كادت تكون مرسومة في الفضاء, وإما بالمسطحات الحديدية في أعمال حسين ماضي التي قلّما ما تنتهي بخطوط مستقيمة او منحنية بأسلوب تشخيصي تجريدي, أما أعمال فريد زغبي التي ركّب أجزاءه النحتية وضمّها من الخرضوات الميكانيكية التي كان لها نصيب في النحت اللبناني وكانت حركة جديدة على غرار الحركة المستقبلية العالمية.
ولما كان الشكل هو محور البحث الدائم, ذهب البعض إلى جمع قطع مفكّكة، وإلغاء الحدود الخارجية والزوايا الحادة والحفاظ على الخطوط منسجمة كما في أعمال سلوى روضة شقير وألفرد بصبوص الذي لم يقبل إلا الوقوف على حدود الواقع فعبث في الشكل وحوّره إلى اللانهاية ممزّقاً كل ما له صلة بالعالم الخارجي, مبدعاً عالماً خاصاً, إنه التعبير المطلق في الشكل الذي يكسر صمت المكان, والحركة تنطلق لديه من الداخل إلى الخارج وهذا ما اتفق عليه أخوه يوسف بصبوص وكان أحد المنحيين الذي اتبعه بمنحوتاته, بالإضافة إلى المنحى الثاني وهو الانغلاق على الشكل العمودي, فالشكل هو الموضوع بالنسبة إليه, أما ميشال بصبوص بقي محافظاً على منحوتاته التكعيبية المتطاولة التي اخترقها الضوء إلى أن بلغ التجريد الصافي, وحافظ على هدوء العمل.
أما الفونس فيليبس ومع خطوطه الحديدية الرفيعة حاول اكتشاف معادلات جديدة للكون متجاوزاً المادة لبلوغ الشكل, كما فعل يوسف بصبوص، خاطب المادة ودرس جوانبها لاستخراج الشكل, بعكس زافين هاديشيان الذي حوّل الشكل إلى رمز للوصول إلى المثالي المطلق..
تماوجت أساليب التحوير من فنان إلى آخر, فالإخوة بصبوص اعتمدوا الأشكال الهندسية، ومع ميشال قلّصت المساحات بينما مع أخيه يوسف دمجت مع الأحجام والخطوط بتوازن مطلق. مع سلوى شقير انطلقت في معظم أعمالها من الكرة أو الدائرة التي لطالما اعتبرتها الشكل الأكثر كمالاً، أما المكعب فهو عنصر مكتف بذاته, دخلت أعماقه وحافظت على حدوده وأذابت الكتلة وقسّمتها إلى أجزاء وأعادت تركيبها من جديد خطوطاً منحنية داخلية مرتبطة بالخارج, بعيدة عن الطبيعة، الإنسان وكذلك عن المذهب الحروفي اقتحمت الفن منطلقة, في بحثها في تيارات الفن الحديث, من مبادئ الفن الإسلامي فصبّت اهتمامها بالحركة حتى أن العين لا تستقر على جزء فتراكم القطع تشكّل الكل والعكس صحيح.
التجريد والنصب النحتية:
انتفضت المنحوتة اللبنانية من الأماكن الضيّقة وخرجت للأماكن العامة والساحات, فنفّذت أعمالاً نحتية مختلفة الحجم, توزّعت بين الداخل والخارج, فعارف الريس أحد أعمدة الفن اللبناني, قد أنجز العديد من النصب بمواد مختلفة عكست مراحله الفنية, ومن عام 1960 خلعت أعماله ثوب التشخيص واستبدلته بالتجريد الحروفي, والتراكيب الهندسية فكانت رموزاً حملت في طياتها أفكاره ومعتقداته فالشكل يوصلك إلى المعنى الفكري, وهناك شواهد نحتية له في المملكة العربية السعودية, معظمها حروفي إضافة إلى أعمال تجريدية متعددة الأحجام والأمواد نفّذت في لبنان.
مع ستينات القرن الماضي حوّل آل بصبوص قريتهم راشانا إلى محترف ومتحف للنحت في العراء, حلم بدأ مع ميشال الأخ الأكبر وساعده أخواه في تحقيقه وأعلنتها الدولة كأحد المعالم السياحية وفي مطلع التسعينات أنشئ سيمبوزيوم نحتاً في راشانا وتتالت السيمبوزيومات في لبنان وأصبحت ظاهرة ساعدت على تغيير الثقافة البصرية للعامة لصالح النحت التجريدي, فكانت ملتقى للفنانين من بلدان مختلفة عربية وأوروبية في آن..
التجريد اللبناني في الغالب الأعم ذو طابع غربي وخالٍ من أي هوية محلية، فللنحّات رغبة عارمة في إرضاء الجمهور, كما (أن النحت في لبنان تقنية أولاً, ثم شكل, وأخيراً رؤيا), اختياره السهولة في الأسلبة والاهتمام بالحركة الخارجية والخطوط والمسطحات كلها ثوابت تدعم أهمية الشكل (على حساب الرؤيا والبعد الروحي).