5 - ومهما حاولنا استبعاد المؤثرات الخارجية فإننا لن نستطيع استبعاد تأثير المدارس المصرية وشعراء الشام والعراق والمهاجر الأمريكية، ولكنه تأثير غير لافت للنظر لهيمنة
المحافظة، وعدم استجابة الذائقة العامة لما طرأ على المشهد الشعري العربي، وإن كان ثمة تحول فإنه بطيء، ولم يتخط الموضوعات والمعاني.
ولكن هذا التردد لم يتلبث طويلاً، وإن ظل مسايراً لحركات التجديد التي حققت اللحاق بمشاهد الشعر العربي، وما كان لنا أن نهمل مؤثراً قوياً، وهو مناهج التعليم، التي استمدت لحمتها من مرجعيتين: - الدين والتراث، فالتعليم يعتمد هذين المنهجين بشكل متميز، وهذه السمة المنهجية تركت أثرها الواضح على اتجاهات الشعر في تلك المرحلة.
وإذ فاقت (منطقة الحجار) سواها في اللحاق المبكر فإن مرد ذلك قوة التواصل واستمراره من الحجاج والمعتمرين والمجاورين، وتبني (الحسين بن علي) مواجهة حملة التتريك واستقطابه للوافدين من الشام، إضافة إلى الاستقرار واليسار الذي لم يكن مهيأ لبقية المناطق قبل توحيد البلاد. وعلى الرغم من كل محاولات التجديد وعنف المقاومة على يد (محمد حسن عواد) فإن المحافظة طال أمدها واستمرت مواكبة للمجددين من الشعراء.
والمتحدث عن تحولات الشعر لا بد له من استحضار الخلط النقدي بين الاتجاهات؛ ذلك أن المشهد النقدي لم يكن قادراً على التفريق بين المحافظة والتقليد، والحداثوية الفكرية والتجديد الفني، وهذا الخلط يفوّت على المتلقي استكناه حركة الشعر على أصولها. ومع أهمية الفرز بين تلك الطوائف فإن هناك ظواهر جدت على المشهد الشعري، وكادت تقلب أوضاعه رأساً على عقب، وإذ لا نجد بداً في تقصي تلك الظواهر فإن حجمها لا يصل بها إلى ما يراه بعض النقاد الانطباعيين.
ولعل أشد القضايا صخباً ما يتعلق بالتجديد الشكلي، واضطراب المفاهيم حول تحولات الشكل الذي يطلق عليه البعض (عمود الشعر)، بوصفه خاصاً بالعروض الخليلي، وما هو كذلك، ومما يدخل في هذا اللغط قضية الوزن والقافية ومدى ارتباطها ب(الشعر الحر) و(قصيدة النثر) و(مجمع البحور) وسائر الظواهر الشكلية من ثنائيات ورباعيات وتوشيح وغيرها.
والشعراء والنقاد شغلهم جدل متنامٍ، حول البناء والشكل والوحدة الفنية ومتعلقات ذلك، وقضية الشعر الحر أو شعر التفعيلة أو الشعر المنثور أو قصيدة النثر ربطتهم مع طائفة من الشعراء النقاد من أمثال (نازك الملائكة) و(صلاح عبدالصبور)، وهذه الجدليات الصاخبة في المملكة بدأت على يد أعنف ناقد وشاعر هو الأستاذ (محمد حسن عواد)، ولم تقف جدلية الشعر الحديث عند هذا الحد؛ بل تجاوزته إلى ظواهر أخرى، تبدَّت في شعر طائفة من شعراء الوسط، وهم الذين سبقوا مرحلة الانطلاق وأسسوا لها، كظاهرة الشعر الرمزي، وخير من يمثل هذا اللون الشاعر المدني النشأة القصيمي الأصول (محمد عامر الرميح) رحمه الله. والرمز الواعي صنو الغموض.
ولست مع من يربط الظاهرة بقصيدة (الصبان) (يا ليل)؛ فلا (الصبان) ولا (الجهيمان) في (مناجاة نخلة) قادران على الإرهاص لظاهرة الرمز بمفهومه المعاصر، ولو مضينا مع هذا التصور وجب علينا أن نجعل الرمز (أموياً) أو (عباسياً)؛ فلقد جاءت قصائد من هذا النوع تحيل إلى الأطلال وإلى النبات وإلى الحيوانات، وقد وقع بعض الدارسين حين اتخذوا من المطالع رمزاً لأشياء لا يود الشعراء إظهارها، والدارسون للرمزية في الشعر السعودي المعاصر أمثال (الحامد) و(العطوي) يتوسعون في المفهوم، ويعممون الظاهرة، ويدخلون في الرمز ما ليس منه. وإذ نتحفظ على هذا التعميم فإننا نجد الرمز بمفهومه المعاصر عند الشاعر (الرميح) كما أشرت، وعند (ناصر أبو أحيميد) وعند (عبدالرحمن المنصور)، وقد تلقف الراية من بعدهم جيل الانطلاق، وسوف نذكر طائفة منهم عند الحديث عن تلك المرحلة المشكلة.
وإشكالية هذا اللون من الشعر حين يقعد به الرمز والغموض والنثرية، وهذه الظاهرة تمس طائفة من الشعراء الشباب، كالشاعر (سعد الحميدين) و(عبدالله عبدالرحمن الزيد) و(محمد لثبتي) و(محمد العلي) و(عبدالله الصيخان) و(محمد الحربي)، وآخرين تعرف منهم وتنكر، وإذ لا نختلف حول شاعريتهم فإننا مختلفون حول مشروعية تجريبهم المغرق في الغموض والرمز والنثرية. وإشكالية الشعر الحديث أنه خرج من خصوصيته الشكلية إلى ما هو أدنى، وهذا الاستبدال أباح الشعر لغير الموهوبين، وأدى به إلى التراجع أمام الإبداعات السردية؛ ليكون الزمن زمن الرواية، واندفاع المغرمين بتجريب الحداثة العربية لم يستهوِ إلا طائفة من الشباب، فيما بقيت طوائف أخرى ملتزمة ما يلزم من وزن وقافية.
والمحافظون من النقاد يصرون على (عمودية الشعر)، ويرفضون أي محاولة تخرج على العمودية المتمثلة بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والوصف وإصابته، والتشبيه ومقاربته، ولذيذ الوزن وتخيره، والاستعارة ومناسبتها، والتحام النظم والتئامه، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية. ومشروعية العمودية لا تحول دون التجديد والتجريب، وإذا شدد المحافظون فقد يسر المجددون، وبين تطرف الفئتين فَقَدَ الشعر كثيراً من مؤهلاته.
6 - وحين نعود إلى حديث البدايات تبدو لنا إشكاليات زمانية ومكانية فرضتها طبيعة التكوين السياسي، ف(الملك عبدالعزيز) - رحمه الله - عاد من منفاه في شوال من عام 1319ه، واستمرت معارك التكوين ثلاثة عقود، وكانت المناطق الأربع متفاوتة من حيث كافة المؤثرات السياسية والعلمية والاقتصادية والأدبية، وهو تفاوت فرضته أوضاع البلاد قبل التوحيد، ويوم أن أعلن المؤسس توحيد البلاد عام 1351ه، بدأ الدمج في توحيد المناهج والمؤسسات الإعلامية والثقافية، وسائر وجوه الحياة.
والنظر إلى الشعر من خلال مناطقه استوفيناه في مدخل التاريخ الأدبي، ولا حاجة بنا إلى إعادته، ولكننا نحيل إليه؛ ليكون بمثابة التوطئة والمدخل للمدخل، وهو حديث لا يخص الشعر وحده. والشعر لم يكن في بدايته كالسرد؛ ذلك أنه متواصل منذ الجاهلية الأولى، أما السرديات فقد قطعت صلتها بالنثر الفني العربي لتصل حبالها بالمستجدات والمترجمات من القصص والروايات العالمية؛ ولهذا لا نجد حاجة إلى الحديث عن الرواد في الشعر، بل أكاد أجزم بأن القول في الريادة ضرب من الفرضيات، والقول في البدايات قد يتحدث عن شعرائها ممن يحسبه المتلقي من باب الريادة، وما هو منها.
والشعر - كما أشرت من قبل - امتداد طبعي لما سبق، ولكن الأجواء قد تكون ملائمة فتمنحه القوة، وقد لا تكون ملائمة؛ فتؤدي به إلى الضعف، والمرحلة التي ننطلق منها لم تتوافر على الأجواء الملائمة في كافة المناطق. قد تكون في الحجاز أحسن حالاً، ولكنها دون المؤمل فيما سواه، وفترة البدايات توصف بالمحافظة بل تكاد تكون تقليدية في بعض أحوالها، ولما لم تكن الأجواء ملائمة لنهوض الأدب، فقد ظل الشعر دون المستوى، ولا عبرة بمن شذوا عن السمة العامة، وبخاصة في الحجاز التي حركت ركودها مواجهة (التتريك) ولجوء طائفة من علماء الشام وأدبائه وشعرائه إلى (الحسين بن علي)، والنهوض بمهمة المقاومة.
والمؤسسون للحركة الشعرية ينطلقون من (الأسكوبي) و(العمري) و(ابن عثيمين) و(آل حفظي) و(آل مبارك)، وتلك بدايات تنسب إلى شعراء أو إلى أسر نبغ منها أكثر من شاعر، وقد خلف من بعد أولئك شعراء لم يستبدوا، ولكنهم اقتفوا الأثر حذو القذة بالقذة، نجد ذلك عند (عبدالحق نقشبندي) و(عبيد مدني) و(علي حافظ) و(إبراهيم فطاني)، و(آل حفظي) في الجنوب، و(آل مبارك) في الشرق، والمتابع للدراسات والأعمال لا يجد فرقاً واضحاً في تلك المرحلة، ولكنه يقف على مؤشرات واعدة، تجلت فيما بعد، وأدت إلى افتراق الشعراء في اللغة والصور والمعاني.
ولو أتيحت للمتابع قراءات الرصد التاريخي والموضوعي والفني لهذه المرحلة لتبدت له وجهات نظر متباينة، ولقد قام عدد من الدارسين برصد هذه الفترات عبر رسائل علمية، تقصت الشعر والشعراء وإرهاصات التحول، نجد ذلك في كتب الأستاذ الدكتور (عبدالله الحامد) والأستاذ الدكتور (إبراهيم الفوزان) والأستاذ الدكتور (عبدالله أبو داهش) والأستاذ الدكتور (محمد بن صالح الشنطي) والدكتور (عثمان الصالح) وآخرين طبعوا رسائلهم، ورسائل أخرى لم تطبع، تحدثت عن الظواهر الشعرية، أو تحدثت عن الشعراء، ولقد سبق أولئك نقاد ودارسون ومؤرخون متفاوتون في الإمكانيات والاهتمامات، أمثال (عبدالله عبدالجبار)، (عبدالله بن إدريس)، (عبدالله الساسي).
ومن بعد هؤلاء الرواد اتسعت الدراسات وتشعبت، وخصت المناطق والشعراء وسائر الظواهر بدراسات أكاديمية أتت على الحركة الأدبية في البلاد، شعرها ونثرها ونقدها وسائر مناحيها. والإشكالية ليست في جمع المعلومات، ولكنها في براعة الانتقاء وحُسن التأليف. وحركات التجديد لم تكن سريعة بالقدر الذي يؤمله المتابعون، ولكنها إذ بدأت وئيدة الخطى في فجر النهضة تسارعت خطواتها في مرحلة الانطلاق، وإذ عيب التريث في البدايات فإن العيب مضاعف في التهافت غير المحسوب.
ولقد يكون الإنصاف أن نميز بين محافظين لم يدعوا لأنفسهم فرصة الاستشراف، وآخرين وصفوا بالمحافظة، ولكنهم أصغوا لحراك التجديد، وهبت عليهم نسائمه، فالشاعر (محمد بن عبدالله بن عثيمين) محافظ قوي في محافظته مُصِرٌّ عليها، و(عبدالله بن خميس) محافظ حاول أن يجدد في المعاني والموضوعات، ويقال عن شعراء الحجاز والجنوب والشرق مثلما يقال عن شعراء نجد، ولكن شعراء الحجاز في البدايات على الأقل أسرع إلى التجديد، ولاسيما أنهم تابعوا بوعي حركات التجديد، وأصاخوا لصراع المدارس الشعرية مثل (مدرسة الديوان) و(جماعة أبولو) وكان (محمد حسن عواد) خير مَنْ يمثل تلك الإصاخة تنظيراً وإبداعاً.
ولم يكن التلقي مقصوراً على مدارس الشعر في مصر؛ بل كان للمهجرين أثرهم، ف(الصبان) استفتى ناشئة الحجاز عن بعض تجاوزات (ميخائيل نعيمة) وطبع ذلك في كتاب (المعرض)، ومنذ أن أصاخ الحجازيون لضجيج تلك المدارس بدت التحولات الدلالية، وظهر شعر الطبيعة والغربة والحب، ولم يلقحوا بالتجديد الفني المتمثل بالصور والوزن والقافية إلا بعد أمة. ولقد عُرفت اتجاهات بعض الشعراء وصنفوا دلالياً على الأقل، فالشاعر (عبدالله الفيصل) و(القرشي) و(القصيبي) عرفوا بقصائد الحب والتوله، وإن شدتهم فيما بعد قضايا الوطن، وإذ وصف هؤلاء بالرومانسية والحب والتولهْ فقد وصف آخرون بالواقعية، والواقعية التي يوصف بها بعض الشعراء السعوديين تعني الواقعية الاجتماعية، أو قل الشعر الاجتماعي، ولقد كان من فرسانه الشاعر (سعد البواردي) و(عبدالكريم الجهيمان).
يتبع