Al Jazirah NewsPaper Monday  28/12/2009 G Issue 13605
الأثنين 11 محرم 1431   العدد  13605
لما هو آت
أنموذج نقي...
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

هدَّت كاهلها المسؤوليات، تعددت أدوارها بعد أن فقدت عائلها الوحيد..

وأفاقت لتجد بين عينيها أسرة صغيرهم توقظه حرقة جوع، وكبيرهم تخجله حاجة كساء.., وأم تراكمت الأحزان فوق كتفيها بعد أن توالت المرات التي امتدت فيها يد الموت لمخبئها فغاب معها الزوج والابن والأخ.., وهي تذكر أنها كانت طالبة نجيبة في المدرسة تطمح أن تغدو جراحة متميزة، تشق عن الرأس جلدته، تتسلّل لتجاويفه، تطالع في عروقه وأعصابه ومخابئه قدرة الله كيف كوّن هذا الرأس البشري، وإن كانت على يقين أنها لن تبلغ منه ولا عنه إلا مزيداً من محرضات اليقين..فتلك قدرة إلهية لم تؤتها إلا بقدر من المعرفة والبلوغ، ولم تفسح لها إلا القليل من الحدود والولوج, ولن تكشف لها عن الدقائق ولا ما وراء قدرتها.. لكنها البنت الأولى الكبرى لوالديها، وعندما هزت الريح جدار البيت الواهن وتداعت أعمدته كان عليها أن تشمّر عن ساعديها وتزج قدميها في المعمعة لتأخذ بهذا البيت ليقف متماسكاً أمام الريح، ودعت صويحباتها ومعلماتها دون أن تخبرهن بأسباب ترك المدرسة لكنها تركت في أذن أشدهن حرصاً عليها جملتها الشهيرة: (الحياة لا تتوقف دروسها داخل فصول المدرسة),..

أربعون عاماً وهي ترافق المطر والريح.., والعشب والشوك.., والدوامات والغرق.., والإنقاذ والوقوف والسقوط، والصحة والمرض، والضحك والبكاء، نهضت أعمدة بيتها، ووهنت أعمدة جسدها، كثر عدد أفراده.., وقل عدد نبضها، ركض الجميع من حولها.., وتعثرت بها قدماها، نظر الكل بعينيها.., وتلمست يداها الجدران، يمشي الجميع بظهور مستقيمة، وتحمل على ظهرها أن ينتصب، لكنهم يبكون وهي تضحك، يتعبون وهي ساكنة تتبسم، بيد منها تحصد ورد الحديقة، وبيد أخرى تزيِّن به خصلات حفيدات أمها التي غدت طفلتها المدلّلة، لا تأوي للنوم قبل أن توسدها فراشها، ولا تضع لقمة في الصبح دون أن تكون من الرغيف أوله لفمها...

هي هذه المدرسة الكبرى التي كلما زرت جدة، حرصت أن أتنعم بشيء من عبق بيتها بروحانياتها العالية وصبرها المتناهي وحكمتها الجليلة. نموذج من النساء لم تشعر يوماً بأن المجتمع حرمها العمل أو قيَّد حريتها لأن تكون امرأة العطاء والكفاح والبناء.. قالت لي في آخر زيارة لها: (تعلّمت كل ما كنت أتمنى وأكثر، في كلية الطب يدرسون مادة الرأس وتركيباته، في كليات الحياة خبرت عقله وانفعالاته, وتعبيره وقدراته، وتفكيره ومشاعره، بيدي منحني الله تعالى مفاتيح محركات لا يبلغ معرفتها من يدرس في الجامعة، ياه يا خيرية, فعلاً الحياة أوسع وأعمق مدرسة).

*** قارنت صوتها ومدلول كلماتها بتلك الأصوات الناعقة في بؤر المستنقعات.. تتغشاها موجة ألوان تضللها عن الحقيقة..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد