سبق وأن كتبت مقالاً عن أفول السلطة الدينية في جريدة الجزيرة في الثاني من أغسطس 2008، عدد (13092)، وقد واجهت اختلافا شديداً مع الرأي الذي طرحته في ذلك الحين، وكان محور الاختلاف عن أفول السلطة الدينية، وعن حقيقة علاقة السلطة بالدين، وأن الإسلام الصريح ليس له تمثيل سلطوي في الدنيا، هو دين الله عز وجل الذي تدخل فيه العالمين أفواجاً بدون تدخل سلطوي أو إغراء دنيوي، وكنت قد طرحت في ذلك المقال أن تأثير مفاهيم الدين التقليدية على المجتمع قد أفلت، ولم يعد لها سلطة على عقول الناس..، وجاء العام الحالي بكل ما حفل من متغيرات على مختلف المستويات، مؤكداً أن السلطة الدينية التقليدية لم يعد لها نفوذ على الإنسان في المجتمع..
لكن السلفية التقليدية الممثلة في رموزها عبر التاريخ الوطني لا يمكن تجاوز إنجازها التاريخي، فقد حملت لواء التحرير من هيمنة السلطة العثمانية، والتي كانت فترة حكمها وبالاً على جزيرة العرب وغيرها من الأوطان العربية، إذ تخلفت أمة العرب في ظل الحكم العثماني، وتأخرت عن الركب الحضاري بقرون، لكن الحركة الدينية التي انطلقت من خلال الدولة السعودية الأولى أنجزت المهمة الأصعب في تاريخ التحرر العربي من سلطة العثمانيين، وسيظل ذلك الإنجاز علامة فارقة في تاريخ العرب الحديث..
لكن قد نستطيع القول في المرحلة الزمنية الحالية أن تأثير السلفية التقليدية قد تلاشى إن صح التعبير، وفي طريقها للخروج النهائي من العصر الحديث، وقد يكون لغياب العلماء أمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني رحمهم الله الأثر الأكبر على أفول السلفية التقليدية، لكن ربما كان العامل الآخر الأهم هو في مواقفها الأحادية من القضايا الدنيوية، وعدم قدرتها على التأقلم مع المتغيرات، واهتمامها الشديد بأحكام التفاصيل الجزيئية في الحياة، وعدم قدرتها على الاجتهاد في الأمور الجسام، وقد طال بها الزمن في فترة الجمود إلى أن تم الانقلاب عليها بعد انشقاق السلفية الجهادية عنها في أصول الدين، ثم صعود سلطة التيار المدني في المجتمع، مما جعلها في وضع لاخيار فيه إلا بقبول مفاجئ بالمتغيرات الدنيوية التي كانت ترفضها على مدى عقود، أو بالهروب من مواجهة التغيير، وهو ما أجهض على ما تبقى لديها من نفوذ إجتماعي..
كان لصعود تيار الصحوة في الثمانينات الميلادية ممثلاً في تياريه الإخواني والسلفي بداية مرحلة سحب البساط من تحت المؤسسة التقليدية، فالتنافس كان على أشده في ميادين الدعوة بين الإخوان المسلمين والسلفية، وكانت المؤسسة التقليدية تدعم تيار الصحوة السلفي في مواجهة الإخوان المسلمين، والذين وصلا إلى أوج توهجهما الاجتماعي أبان مرحلة الجهاد الأفغاني، وما بعد مرحلة حرب الخليج الثانية، لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك، ليحدث الإنشقاق الأهم، وتخرج السلفية الجهادية كنتيجة لاندماج الفكر الإخواني القطبي مع تيار الصحوة السلفية، وهو ما كان إيذاناً ببدء الخلاف الأكبر بين التقليدية والجهادية..
يكمن التحدي الحالي في أن العالم يرى في المؤسسة السلفي التقليدية صمام الأمان ضد المد الأصولي الجهادي والقدرة في الرد على إدعاءاته، لكن واقع تلاشي نفوذ السلفية التقليدية، يستلزم تطوير مرجعية العلم الشرعي في المجتمع في عصر الإجتهادات والتحديات الوطنية الكبيرة، ولعل السلفية الإصلاحية، التي تدرك أهمية التطور المدني، الأنسب في المرحلة القادمة، والتي من أهم تحدياته تقويض مرجعيات الإصولية السياسية، بالإضافة إلى دعم بناء منهج إصلاحي شامل من أجل رفع درجات الاستقرار الإنساني على أرض الوطن.