لقيت خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مكان يستريح فيه خارج المدينة، ليرتاح من ضجيجها ومن عناء العمل ويأنس بالمناخ النقي، وقد سررت بلقاء الرجل سروراً عظيماً وأحسست أنا والإخوة الذين ذهبنا للقائه أننا نلقى رجلا
فيه صدق وأمانة ووضوح، ويدرك أبعاد المسؤولية التي يحملها بعد أن أكرمه الله باختياره ملكا للبلاد، وقد كان -حفظه الله- يعتز ويفرح بهذا، ووجدناه ملكاً بقلب أب، ورجل يتعامل مع الأحداث بوعي وأمانة، وقد وفقه الله إلى اتخاذ قرارات أساسية ومهمة فرحنا بها جميعا داخل البلاد وخارجها، وكان حازما عندما أحس برغبة بعض من حولنا الاعتداء على حدودنا فجاء رده صارما حازما لا هوادة ولا مساومة فيه، ولكنه في الوقت نفسه أصر على أن لا نعتدي على شبر واحد من أرض جيراننا، ولا نتدخل في شؤونهم، ونحن ندعو الله أن يطفئ الفتن التي استعلت عندهم، وعلينا أن نعينهم بالدعاء وبإيضاح أهمية جمع الكلمة ووحدة الصف وأن الحوار كما أعلن الملك عبدالله بكل صراحة هو الطريق والتنمية هي الغاية، أما الصدام والحروب فلا يقودان إلا إلى مزيد من الكوارث والمآسي.
وقد صحبت صفوة من الأحبة في هذه الرحلة إلى روضة جميلة خارج مدينة الرياض تعرف «بروضة خريم» وذكرتني بالأيام الخوالي يوم كنا نخرج مع الملك خالد -رحمه الله- إلى «الثمامة» و»روضة التنهات».
ولقد أسعدني أن أكون مع الابن الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز لنقدم مع هيئة جائزة الملك خالد -رحمه الله- لخادم الحرمين الشريفين الجائزة الخاصة بفرع الإنجاز الوطني لهذا العام، وذلك تقديرا له ولاهتمامه وسلسلة نجاحاته في تنمية قطاع التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية، وكان معنا في الوفد الزملاء الدكتور سعود بن سعد المدحمي، والدكتور عبدالله بن عبدالرحمن العثمان، والدكتور صالح بن عبدالرحمن العذل، والأستاذ فيصل بن عبدالرحمن المعمر، والأستاذ عبدالله بن سالم باحمدان، والدكتور يوسف بن أحمد، والدكتورة الجازي بنت محمد الشبيكي.
وعند تقديم الجائزة كان رد الملك عبدالله رائعا وفيه معنى الوفاء، فقد قال: «جائزة الملك خالد جائزة عزيزة علينا وجائزة نعزها ونحترمها، الله يغفر له ويحلله ويبيحه، نفع البلاد ولم يأت منه ولله الحمد إلا كل خير على الشعب السعودي كله وعلى الأمة الإسلامية.. وشكراً لكم».
وقد سرني في اللقاء أن رجلا تقدم إليه يثني على جهوده وقال له: «إنك يا خادم الحرمين قد حميت حدودنا وبلادنا»، فقال الملك عبدالله: «يا أخي إن الحامي هو الله، والحارس هو الله، وما نحن إلا جنود نستعين به عز وجل ونتوكل عليه» وقد ذكرني هذا بأيام بعيدة في عهد الملك فيصل -رحمه الله- عندما قال أحد الشعراء له: «يا حامي الحرمين دمت موفقا» فقال الملك فيصل -رحمه الله- لمعالي السيد أحمد عبدالوهاب رئيس المراسم الملكية في ذلك الوقت: «قل له يصحح العبارة.. أنا لست حامي الحرمين، أنا خادم الحرمين».
وقد فرحت بلقاء مجموعة من أبناء منطقة عنيزة حيث قدموا التحية لخادم الحرمين الملك عبدالله، وأطلعوه على جوانب النهضة في عنيزة، والقصيم عامة، وسرني ذلك التكاتف والتعاون والعمل الموحد الذي قدموا به أعمالهم، وقد فرح بها الملك عبدالله، وفي الوقت نفسه أكد عليهم أن يضاعفوا اهتمامهم بصناعة الرجال والعناية بالتنمية البشرية، وفي مقدمة هؤلاء الإخوة محافظ عنيزة الأستاذ مساعد الخالد السليم، والأستاذ فهد الحمد السليم وكيل المحافظ، والأستاذ عبدالله اليحيى السليم، والدكتور عبدالرحمن بن عبدالله الحمد الزامل، ومعالي الدكتور سليمان بن عبدالعزيز السليم، ومعالي المهندس عبدالعزيز بن عبدالله الزامل، ومعالي الأستاذ أحمد عبدالرحمن المنصور، والأستاذ حمد الخالد السليم، واللواء متقاعد محمد عبدالعزيز السليم، وفهد الخالد السليم، وعبدالله العبدالرحمن السليم.
وإن مما يقدر لأبناء القصيم حرصهم على تكريم رجالات من منطقتهم، وهو أمر يلفت النظر، فقد كرموا منذ أيام معالي الشيخ عبدالله السليمان، وهو من رجالات الدولة البارزين، وله بصمات واضحة، وعُرفت عنه الكثير من المروءات والوفاء لوطنه وللذين عملوا معه، وكذلك الأستاذ سليمان العليان الذي يعتبر من رجال الأعمال البارزين في المملكة، ومن العصاميين، والأستاذ إبراهيم الجفالي الذي كان ممن يألف ويؤلف وساهم في أعمال خيرية، ولا يزال بعضها شاهدا عليه، وقد أدى هذا التكريم إلى تبني أسرهم بعد وفاتهم لمشروعات في القصيم تعتبر من الإضافات الاجتماعية المهمة، وكم نتمنى أن يقوم رجال الأعمال في كل مناطق المملكة بمثل هذا التكاتف والتعاون والتكريم فهناك رجالات في مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف وما حولها، وفي جنوب المملكة وفي شرقها وشمالها من الرجال ممن يستحقون التكريم وهي فرصة لكل رجالات المناطق أن يتعاونوا بمثل هذه الأعمال الوطنية الطيبة.
ثم قام طفل في مقتبل العمر، وألقى كلمة رائعة، وكان فصيحا -حفظه الله- فرح الملك به وفرحنا جميعا بكلامه وبجرأته وحسن أدائه، وكانت والدته تقف من خلفه تعضده وتشجعه، فضمه خادم الحرمين وشجعه وأكرمه وأحاطه بنظرات أبوية جعلتنا نحس أن هذا أب في ثياب ملك، وملك يملك القلوب بإنسانيته ومروءته وحبه واحترامه لشعبه وأبنائه.
وقد أسعدني أن ألتقي ببعض رجالات التعليم، فكان بجواري معالي الأخ الدكتور عبدالله العثمان مدير جامعة الملك سعود التي تعتبر اليوم معلما بارزا من علامات التعليم العالي في بلادنا، وهي تسير بخطى حثيثة، وخطوات جريئة واهتمام بالبحث العلمي، ونظرات إلى المستقبل، حتى أنهم يملكون ما يزيد على 1500 مليون ريال بمثابة أوقاف تدر على الجامعة أرباحاً يستعينون بها في مسيرتهم، وقاموا بخطوات جادة في مسيرتهم التعليمية.
لكني قلت لخادم الحرمين الشريفين إنك قد أقدمت على خطوات كبيرة بفتحك ما يزيد على عشرين جامعة في أنحاء مختلفة من المملكة، ولكن كم أتمنى -حفظك الله- أن توجهوا الجامعات إلى تغيير جذري في صناعة المتخرجين، فقد تشبعت البلاد بآلاف الشباب والشابات في مجالات مختلفة لا تحتاج إليها البلاد بهذه الأعداد الكبيرة في الوقت الحاضر، ولكنها تحتاج إلى معاهد تقنية متخصصة لتخرج أيادٍ وطنية تساهم في عملية التنمية التي نحلم بها جميعا، فكليات الطب تعددت والحمد لله، ولكن علينا أن نعلم أن كل طبيب يحتاج إلى عشرة من الممرضين والمساعدين وأخصائي التحليل والخدمات الطبية المساندة، فلا بد من تضمين كل هذه المجالات التقنية في مناهجنا حتى نحمي أنفسنا وبلادنا من هذا الفيضان الذي قدم إلينا حتى بلغ سبعة ملايين عامل وعاملة، وأولادنا لا يجدون عملا شريفا يخدمون به بلادهم، ويحملون شهادات ولكن في غير المجالات التي تحتاجها البلاد، ويريدها رجال الصناعة والتجارة والأعمال، مما يضطرهم إلى استيراد هذه الملايين من خارج البلاد وأولادنا وبناتنا يتسكعون دون أن يجدوا عملا شريفا.
ولعل هذا الحديث قد أغضب بعض الإخوة الذين لم يدركوا حقيقة ما أرمي إليه، وظنوا أنني أتحدث إلى خادم الحرمين الشريفين عن عدم نجاح الجامعات في تحقيق أهدافها، أو أنني أنتقد وضع جامعة بعينها، مع أنني يعلم الله إنما كنت أقول كلمة حق، بأن مسيرتنا الجامعية تحتاج إلى إصلاح جذري في خططها ومناهجها ومسيرتها حتى تخدم الوطن والعباد والبلاد: فعفواً إن أخطأت التعبير، ومعذرة إن خانتني القدرة على إيضاح وجهة نظري.
ثم رأيت هذا الملك الإنسان يستقبل التهاني بمشاريع الصناعات وإننا نتجه اليوم إلى صناعات بتروكيماوية، وبترولية وكما قال أخي الدكتور عبدالرحمن الزامل وكان من بين الحضور:( إننا سوف نصدر عما قريب كميات من البنزين إلى الخارج وأنواعا من البتروكيماويات لتزاحم في مجال تصدير الصناعات البتروكيماوية)، وهذا لعمري نعمة فرحت بها وبسماعها، بعد أن كنا نصدر البترول خاما لسنوات طويلة، وها نحن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح.
لكنني في أثناء حديثي قلت للإخوة أمام خادم الحرمين:( إن بعض هذه المناطق مثل منطقة رابغ وثول وما حولها لم يستفد أهلها من هذه المصانع وهذه المشاريع الكبرى لأنهم لم يعطوا الفرصة المناسبة للعمل وتلقي التدريب على العمل بل العكس، فقد زادت البطالة عندهم وارتفعت تكاليف المعيشة، ومن هنا فمن واجب كل رجال الصناعة في المشروعات الكبرى التي تُنشأ في مثل هذه المناطق أن يأخذوا في الاعتبار أهمية تدريب وتعليم هؤلاء الشباب ليساهموا ليس في نهضة قراهم، وإنما في نهضة المملكة الأم، وليس بالضرورة بدرجات بكالوريوس، ولا درجات ماجستير أو دكتوراه، وإنما بمعاهد تقنية تخرجهم ليعملوا في خدمة بلادهم ووطنهم، فهذا أجدى من التركيز على الشهادات الجامعية وحدها).
وختاما فقد كان حديثا رائعاً، وصحبة كريمة شعرنا فيها بأنه ملك وأب ورجل وإنسان.