جاء السيل وذهب.. جاء (سيل الربوع) الذي اجتاح شرقي جدة صبيحة يوم أربعاء قبل وقفة الحج الكبرى بيوم، جاء ثم ذهب، ولأنه ترك وراءه أكثر من سيل في جدة وفي خارج جدة، فإنه على ما يبدو ما ذهب.
ترك السيل سيلاً آخر من الانتقادات التي توجه بشكل يومي إلى أكثر من جهة خدمية وغير خدمية في مدينة جدة.. أمانة جدة.. مصلحة المياه فيها.. الماء والكهرباء.. محاكمها.. رجالات جدة ووجهائها وصحافتها وكتّابها.
ترك سيلاً عرمرماً من علامات الاستفهام، وأصابع الاتهام، وانتظار ما يأتي في مقدم الأيام. سيل مضاد للفساد، الذي هو غول التنمية، وبعبع الأمن والاستقرار.
* وترك سيلاً آخر من قصص حزينة، وحكايات أليمة، أبطالها نساء أو أطفال أو كبار سن، فاجأتهم الكارثة، فكانوا هم في قلب الكارثة التي لم تخطر ببال أحدهم ذات يوم، فمات من مات، وتشرد من تشرد، وترمل من ترمل. لا حول ولا قوة إلا بالله.
وترك سيلاً آخر من قصص إنسانية، وحكايات اجتماعية، أبطالها رجال ونساء، نذروا أنفسهم لخدمة الإنسان من يكون وأين يكون، فبذلوا أقصى ما في وسعهم من مال وعطف وتكافل مع الأسر المنكوبة من (سيل الربوع).
وترك سيلاً آخر من شهامة ومروءة شبان وشابات جدة، فهنالك خمسة آلاف شاب وشابة، شمروا عن ساعد جدهم، وواصلوا ليلهم بنهارهم، من أجل تضميد جراح المنكوبين، وإغاثة الملهوفين، وجمع شمل الأسر التي فرقها الفزع، وشتتها الخوف، وران على قلوبها الحزن.
وترك سيلاً آخر من ملاحم بطولية، ومواقف رجولية، كان أبطالها رجال ونساء، لم يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون السيل يبتلع أمامهم أناساً آخرين غيرهم، كل ذنبهم أنهم كانوا في الزمان الخطأ، والمكان الخطأ، عندما جاء المطر، فتحول الزمان إلى رعب، وتحول المكان إلى رهب. ومن هؤلاء الأبطال الشجعان؛ من فقد حياته من أجل حياة الآخرين، مثل الشهيد الباكستاني (فرمان خان)، وآخرون خاضوا غمار الموت مع السيل، فأنقذوا العشرات، وكتبت لهم النجاة مع الناجين الذين كتبت لهم حيوات جديدة على أيديهم، مثل الشابة البطلة (ملاك فواز المطيري)، ورجل الدفاع المدني البطل العريف (مانع اليامي).
سيول كثيرة خلفها (سيل الربوع)، ما زالت تتحرك في جدة وحول جدة.. ربما كان هناك أبطال لم نعرفهم بعد، وقصص كثيرة، مما يبكي ويضحك، وأخرى إنسانية وغير إنسانية، لم تصل إلينا بعد، على أن سيل السيول الذي تركه (سيل الربوع)، هو القرار السامي من خادم الحرمين الشريفين، الملك (عبدالله بن عبدالعزيز) حفظه الله.. قرار التحقيق والتدقيق، والمساءلة والمحاسبة، وتعويض المنكوبين بجزالة معهودة منه، حيث أثبت بهذا القرار الذي يؤسس لما بعده، أنه لا ولن يُضار إنسان كائناً من كان، وهو على أرض المملكة العربية السعودية.
يبدو أن عجائب (سيل الربوع)، لن تنقضي، وأن غرائبه لن تنتهي، وأن هذا الحادث الكبير، سوف يكون له ما بعده، مثلما كان له ما قبله. ربما نهجنا نهج الأجداد والآباء الذين سبقونا، فأرخوا بحادث (سيل الربوع) سنة 1360هـ، فنقول مثل قولهم ذاك: حدث هذا قبل (سيل الربوع بعام)، أو وقع هذا بعد (سيل الربوع) بعام.. وهكذا حتى يأتي (سيل ربوع) آخر، فننتبه -هذا إذا انتبهنا- أننا كنا نؤرخ بحادث وقع، ولا نعتبر من هذا الحادث الذي وقع، حتى يأتي حادث آخر مشابه فيقع..!.
عرضت في مقالي الأحدي الفارط، لتضحية وبطولة من نوع فريد، وطالبت بتكريم صاحبها الشهيد: (فريد خان)، ولو بتخليد اسمه على شارع في المدينة التي أنقذ أربع عشرة نفساً من سكانها، ثم دفع حياته ثمناً لهذه التضحية، وجاءت ردود قراء المقال، وهي تؤيد وتؤازر الفكرة، وتطالب بتربية وتعليم بناته، وهناك من قال بمنحهن الجنسية السعودية، إكراماً لأبيهن البطل.
ومما سرني في هذا المشهد الإنساني، الذي يثبت على أن مجتمعنا بخير وإلى خير، أن عمدة حي بني مالك في جدة: (عوض بن حسن المالكي)، بادر إلى تكريم جندي شجاع في ميدان الإنسانية، هو العريف في الدفاع المدني: (مانع اليامي)، فقد ضرب هو الآخر، سهماً موفقاً في البسالة والشهامة، وأنقذ أربع عشرة نفساً من الغرق، ومع أن عريف الدفاع المدني اليامي، كان يؤدي واجبه الوظيفي مثل غيره من زملائه، الذين لم يتهاونوا في أداء واجباتهم بكل تأكيد؛ إلا أنه استبسل في مهمته، وأخلص في واجبه، فاستحق ثناء المسئولين، وحاز رضا المجتمع الذي قدر جهده، وثمن بلاءه في ميدان شرفي يحق لمثله أن يرفع به رأسه، ويتباهى بما أنجزه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن قصص التضحيات البطولية، والتجليات الإنسانية، التي جاء بها (سيل الربوع).. هذا الذي جاء وذهب، أو أنه ما ذهب، قصة أو ملحمة ولدت على يدي فتاة في المرحلة المتوسطة، هي الشابة (ملاك فواز المطيري).. تقول ملاك بكل اختصار مفعم بالبطولة والشجاعة: (وقع أبي وأخي في فم السيل وهما ذاهبان لشراء الأضحية، وقد حاول والدي الاتصال بأكثر من جهة، ولكن لم تفلح محاولاته، فلم يجد بداً من الاتصال بنا مستنجداً، وعندها شعرت بقوة لم أكن أمتلكها من قبل، فأسرعت إلى سيارة والدي (الجمس)، وبدأت في قيادتها مستندة على إلمامي الجيد بفن قيادة السيارات، والذي تعلمته من والدي في رحلات البر.. نعم كانت قيادتي للسيارة هواية، ولكنها أصبحت اليوم طوق نجاة، ووسيلة لا غنى عنها.. تجرأت وخضت عباب السيل الهائج، فانتشلت والدي وأخي، ثم عدت لأنقذ بسيارتي (الجمس)، ثماني أسر كانت تصرخ داخل سيارات غارقة في السيل، وكنت على استعداد لما هو أكثر من هذا، فما أجمل أن يجعلني الرحمن سبباً في إنقاذ البشر من مستنقع الموت والهلاك..).
ما أجمل هذه التضحية من شابة تقود السيارة، فلم تكتف بإنقاذ والدها وأخيها، ولكنها تستجيب لاستنجاد واستغاثة ثماني أسر محتجزة في السيل، فتأخذ أفرادها جميعاً إلى بر الأمان.
وما أجمل أن تبادر جدة، بكل مسؤوليها وأعيانها ووجهائها ورجالاتها، فترصد هذه التضحيات البطولية، وتجلي هذه التجليات الإنسانية، ما ظهر لنا وما لم يظهر، فتكرم أبطالها، وتكافيء أصحابها، وتخلد أسماء: (فرمان خان)، و(مانع اليامي) و(ملاك المطيري)، وغيرهم ممن فعل مثلهم، على شوارعها وميادينها، لكي يعرف العالم كله، أننا شعب يحترم الكفاءات، ويقدر الإنجازات، ويكافئ البطولات، وحتى يتعلم النشء منا، أن الشجاعة والبطولة والتضحية، ليست أقوالاً تردد، ولكنها أفعال تمجد، وأن الإنسانية الحقة، إنما تتجلى في الممارسة الإنسانية نفسها.
assahm@maktoob.com