عبدالحميد العمري
صدرتْ مع منتصف الأسبوع الماضي ميزانية الدولة للعام 2009م وموازنة العام المالي القادم 2010م، حملتْ الأخيرة في ثناياها عدداً من المؤشرات والتوجهات التنموية البالغة الأهمية؛ التي ترنو طموحاً -رغم الأزمة المالية العالمية- إلى السعي الحثيث نحو تحقيق المزيد من الارتقاء والإنجاز. إنها بكل المقاييس موازنة تنسجم تماماً مع تطلعات قيادةٍ طموحة إلى حدود عدم الاعتراف بأي أعذار للفشل! هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر تراها تتخطى الحواجز تلبيةً للاحتياجات التنموية المحيطة بالمواطن! بينهما تقف الأجهزة والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية حاملة المسؤولية كاملة على مستوى تحقيق أهدافها المشروعة.
فيما عبّرت ميزانية الدولة الفعلية للعام 2009م عن شجاعةٍ جاءت في وقتها ساهمت في التصدّي لتداعيات أحد أعنف الأزمات المالية عالمياً، خففت كثيراً من التسربات الخفيّة للأزمة المالية العالمية على الاقتصاد السعودي. كيف لا؟! وقد جاء الإنفاق الفعلي عن العام 2009م الأعلى في تاريخ ميزانيات الدولة (وصل مجموع الإنفاق الحكومي خلال 1970-2009م إلى 8.4 تريليون ريال، من أصل مجمل الإيرادات خلال نفس الفترة التي بلغت 9.2 تريليون ريال)، كما ارتفعت مساهمته في الاقتصاد الكلي إلى نحو 39.7 في المائة من الناتج الإجمالي للاقتصاد السعودي، هي الأعلى نسبة خلال عقدين من الزمن مضيا. ظهرتْ نتائج تدخلها الحاسم في الدفع بالاقتصاد الوطني لتحقيق معدل نمو حقيقي ملفتاً قياساً على الأزمة العاصفة التي هزّت الاقتصاد العالمي، عاكس وتجاوز توقعات حتى صندوق النقد الدولي السلبية، ليختتم العام الأكثر عسراً في التاريخ المعاصر بمعدل نمو ناهز 0.2 في المائة، امتد دعمه من الدور الحكومي الفاعل عبر سياسته المالية المقننة الذي نما بالأسعار الثابتة بنحو 4.1 في المائة (الأعلى منذ 1997م)، استفاد منه القطاع الخاص غير النفطي هو الآخر ليحقق معدل نمو تجاوز 2.5 في المائة، وهو ساهم في مجمله بامتصاص التراجع الذي تعرّض له القطاع النفطي بتراجعه بنحو -6.4 في المائة.
السياسة المالية.. أهم الأدوار خلال أربعة عقود
لقد لعبت السياسة المالية السعودية الأخيرة -في رأيي- واحداً من أهم أدوارها على امتداد أربعين عاماً مضتْ، إذ لم تواجه فقط خصماً واحداً ممثلاً في التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية، بل لقد واجهتْ أيضاً خصوماً آخرين ساهموا بدورهم في زيادة كاهل المواجهة على اليد المالية السعودية؛ تناثرتْ مواقعهم العشوائية في خريطة عددٍ من التشوهات القائمة في أنسجة السياسات الاقتصادية الأخرى (النقدية، التجارية، الصناعية، الاستثمارية...)، والتي كنتُ وغيري قد أشرنا إليها في الكثير من التقارير والدراسات التي سبقتْ فوضى الأزمة المالية في مقدرات الاقتصادات حول العالم، رأيناها وقفت عاجزة أمام بعض الاختلالات الهيكلية التي زاد انكشافها بعد الضغط الشديد للأزمة المالية. فهذه التجارية والصناعية لم تستطع فعل الكثير أمام العديد من السياسات الحمائية التي لجأت إليها بعض الدول الشريكة تجارياً لاقتصادنا، وجاءت متأخرة حتى إطار التصدّي لتلك السياسات، وأخشى ما أخشاه أن بعضاً منها تمت تسويته مقابل تنازلات ما كان لتلك الدول أن تحصل عليها سابقاً. أيضاً وجدنا أننا أمام كياناتٍ هشة في القطاع الخاص، التي على الرغم من ضعف ارتباطنا مع الأزمة إلا أن شريحةً كبرى من تلك الشركات والمؤسسات قد أصبح مصيرها على كفِّ عفريت! أضفْ إلى كل ما تقدّم الضعف الشديد الكامن في القاعدة الإنتاجية للاقتصاد السعودي، الذي عانى كثيراً من تذبذبات أسعار النفط في أوقات استقرار الاقتصاد العالمي، فما باله وهو في مواجهة تداعيات هذه الأزمة المالية العنيفة. ثم، ماذا تحقق في هذا الصدد لا أقول على أرض الواقع! بل إزاء أهداف وسياسات وبرامج خطط التنمية منذ 1970م حتى اليوم؟!
وهذه السياسة النقدية وقفت مشلولةً أمام إحجام القطاع المالي عن تلبية الاحتياجات التمويلية للاقتصاد، وتحديداً القطاع الخاص الذي لم يستطع زيادة حصته من التمويل المالي المحلي بأكثر من 1.7 في المائة طوال 2009م، حدث ذلك رغم سلسلة متتالية من تخفيضات أسعار الإقراض والإقراض العكسي والنسب النظامية على الودائع. وما تلك إلا نتيجةً لإشكالية أخرى لم يستطع القطاع المالي أن يتخطاها بأعين عمياء تمثلت في الزيادة غير المألوفة على مستوى المخاطر المرتبطة بالتعثر عن السداد، وكيف أن زيادة كل التركز المصرفي والتركز في الإقراض قد زادا من تعقيدات الأزمة! وهذه بلا شك تشوهات كانت قائمة منذ أمدٍ بعيد في صلب كيان القطاع.
وها هنا جمعٌ من رجال الأعمال ساهموا في زيادة أعباء الحكومة والاقتصاد عبر بعضٍ من قراراتهم وإجراءاتهم المتعجلة، جاءتْ نتيجة لنظرةٍ قاصرة على مصالح ضيقة، متجاهلاً البعض منهم دوره الرئيس في إرساء دعائم الاستقرار الاقتصادي. فقد لجأ بعضهم إلى إنهاء عقود مواطنين ومواطنات بداعي الأزمة! ومن عجبٍ تراه في زاويةٍ أخرى يقتنص بعقوده (خبراء) وجدوا أنفسهم في شوارع مدن الغرب بعد إفلاس شركاتهم ومؤسساتهم العتيدة بفعل الأزمة المالية هناك، لم يكن حسب اعتقاده يحلم بالفوز بخدمات أولئك (الخبراء) قبل الأزمة!! وآخرون أحدثوا أنواع الفزع في سوق المال السعودية، نتج عن تصرفاتهم غير المسؤولة خسائر وتذبذبات فادحة لم تتعرّض لها حتى الأسواق موطن الأزمة الرئيس! وآخرون قاموا بتحويل جزء من ثروتهم إلى خارج الحدود، بدعوى أن العائد على رأس المال هناك لا يُقارن بما هو قائم هنا! إن الإحاطة بكل تلك التفاصيل، سيتيح للمراقب اكتشاف أي دور قامت المالية الحكومية السعودية خلال الفترة الماضية من عمر الأزمة! على أنه لا يمكن نسيان نجاحها السابق والهام بمنظور اليوم في تكوين أرصدة متينة من الاحتياطات المالية إبّان الرخاء الاقتصادي العالمي، شهدنا جميعاً كيف أنها أضافتْ قوةً فريدة إلى إمكانات الاقتصاد السعودي في إطار تصديه لتداعيات الأزمة.
موازنة التطلعات العليا والاحتياجات التنموية
بالنظر في مخصصات الموازنة المالية لعام 2010م تجاه القطاعات الحيوية محلياً، وكيف أنها قفزت بحصتها النسبية لنحو 54 في المائة من إجمالي الإنفاق المستهدف، وإلى الاهتمام النسبي ببعضٍ ممن زادتْ أولويتها قياساً على التحديات الجسيمة المرتبطة بها كقطاع التعليم وتنمية الموارد البشرية، الذي أستأثر بنحو 25.5 في المائة من إجمالي الإنفاق المُقدّر للعام القادم، وبزيادةٍ نسبية تجاوزت 13 في المائة عن نصيبه في الموازنة السابقة،. أو الاهتمام المنصب على بعض الاحتياجات التي أنكشف لنا جميعاً تردّي مستواها وأدائها في الفترة الأخيرة، كالقطاعات المرتبطة بالخدمات البلدية في بعض المدن والمناطق، ما أنعكس على ضرورة زيادة مخصصاتها بأكثر من 15 في المائة. كما لا ننسى بعضاً من صناديق التنمية العقارية والصناعية المتوقع أن تنفق خلال عام 2010م فقط أكثر من 12.5 في المائة من إجمالي ما تم ضخه في الاقتصاد من تمويل عبر تلك الصناديق منذ تأسيسها!
كما أن محور الموازنة الخيرة كان الإنسان! فإن مستوى معيشته وتعدد خياراته المصيرية أيضاً؛ من المفترض أن تكون هي معيار تقييم مستوى أداء أي من تلك الجهات الحكومية والعاملين فيها طوال فترة العام المالي للشركة. إضافة إلى ما تقدّم، فإن معايير أخرى ذات علاقة تقتضيها الضرورة في مسألة تقييم أداء وكفاءة أي من الجهات المسؤولة عن تنفيذ أي مشروع من مشاريع الموازنة، ستكون هي المحك والاختبار في ما إذا تحقق المشروع المستهدف أم لا؟!
من أين سيتم تمويل العجز المتوقع لعام 2010م؟!
ليس العجز كما يظن البعض دائماً بالأمر السيئ أو مدعاة للقلق في الأجل القصير، بل حتى في الأجل المتوسط في بعض الأحيان، إذ تعتمد المسألة بصورة رئيسة في قبوله من عدم قبوله على المبررات التي أفضتْ إليه؛ فإذا كانت مرتبطة بزيادةٍ اقتضتها احتياجات تنموية محددة (زيادة في جانب الإنفاق الحكومي الاستثماري)، وإذا كان تمويل هذا العجز سيأتي من حوض احتياطيات جيدة جداً (أو حتى عن طريق خلق أدوات دين محلية تجتذب مدخرات وطنية عوضاً عن هروبها للخارج)، وإذا كان حجم الدين العام منخفض جداً كما هو الحال للاقتصاد السعودي، أؤكد أن ليس في الأمر ما يدعو للقلق على الإطلاق.
ينطبق تماماً على المالية السعودية ما تقدّم ذكره من أمثلة، فالسعودية -بحمد الله- تواجه عجزها المحدود (لا يتجاوز 3.3 في المائة من إجمالي الاقتصاد) بعد ستة أعوام سمان من الفوائض التاريخية، كما أنها تتمتع باحتياطيات قياسية وجيدة جداً، توافرت لها خلال السنوات الأخيرة بفضل الله ثم بفضل حسن تدبير تلك الفوائض السابقة، وهو ما يؤهلها لأن تسدد عجزاً يسيراً في الموازنة مستقبلاً ستصبح فعلية كما هو قائم عن العام المتوقع بلوغه نحو 70 مليار ريال مع نهاية 2010م، أؤكد سيتم تسديده بالدرجة الأولى من خلال الاستفادة من أرصد الاحتياطيات المتراكمة في ميزانية مؤسسة النقد، وأخيراً فإن حجم الدين العام قد تقلص حجمه بصورةٍ جيدة وسريعة. إذاً الإجابة الأقرب للتحقق إزاء السؤال أعلاه! أن مصدر تمويل العجز المقدر هو الاحتياطيات الكبيرة المتوافرة للاقتصاد السعودي.