قبل أربعة أعوام وتحديداً في نهاية عام 1426هـ (2005م)، كتبت مقالاً مطولاً نشر في إحدى الصحف بعنوان: (البرامج الدراسية في الخارج: استثمار بلا حدود).
تطرقت فيه لأهمية برامج الابتعاث ودورها المأمول، كما ربطت فيه بين التقدم الهائل الذي تعيشه بعض الدول الآسيوية والأعداد الكبيرة لطلابها الدارسين في الخارج خلال العقود الماضية، وأشرت تحديداً إلى تجربة كوريا الجنوبية في التعليم والتدريب والابتعاث، هذا البلد الفقير في موارده الطبيعية، المصنف في منتصف القرن الماضي ضمن أفقر ثلاث دول في آسيا، أصبح اقتصاده في المرتبة الثالثة في قارة آسيا بعد اليابان والصين، وفي المرتبة العاشرة بين أغنى دول العالم، وقد أكدت في المقال على ضرورة الاهتمام بتطوير برامج الابتعاث واختيار الطلاب المؤهلين والمتميزين، وذلك حتى تتحقق أهداف الابتعاث (الاستثمار)، وتعود نتائجه وثمراته على الفرد والمجتمع بكل خير.
في ذلك الوقت لم يكن مضى على انطلاق برنامج الملك عبدالله للابتعاث إلا عام واحد، ولم يدر بخلد أحد من المتابعين أو المهتمين بالشأن التعليمي ذلك الحين أن هذا البرنامج سيحظى بهذا الحضور القوي، فالوزارة الراعية للبرنامج (التعليم العالي) نظمت عمل البرنامج وأنشأت وكالة متخصصة للبعثات، ودعمت الملحقيات الثقافية وهيأت لها وللوكالة كل ما تحتاجه من كوادر بشرية وإدارية، كما فتحت الباب لالتحاق الطلاب والطالبات بالبرنامج، فأدى هذا مع الأعداد الكبيرة لمبتعثي البرنامج سنوياً إلى ارتفاع أعداد المبتعثين إلى نحو 60 ألفاً، وبالإضافة إلى هذه النقلة الكبيرة في المجال الكمي، أصبحنا نقرأ ونسمع بصفة شبه يومية عن أخبار المبتعثين وإنجازاتهم، فهذا يسجل براءة اختراع، وذاك يقدم ورقة علمية متميزة في مؤتمر دولي، وآخر يحصل على جائزة رفيعة.. بالإضافة إلى أنشطة المبتعثين وتواصلهم الثقافي مع المجتمعات التي يعيشون فيها، فنسمع أخبار نادٍ سعودي ينظم حفلاً في اليوم الوطني، ونادٍ يشارك في مناسبة ثقافية أو اجتماعية محلية، أو يقيم حفلاً رمضانياً أو معرضاً عن المملكة، ونحو ذلك في أنشطة مختلفة.
والحقيقة أن برنامج الابتعاث - وهو بحسب اطلاعي أكبر برنامج بعثات علمية مدعومة حكومياً بالكامل في العالم -، ليس إلا واحداً من عشرات الإنجازات التي حققها التعليم العالي السعودي في سنوات قصيرة، فمن جامعات جديدة، ومراكز بحثية، وخطط تطويرية، وكراسي علمية، وبرامج دولية، ومشروعات ضخمة، وتحسين للرواتب والمميزات، وصعود سريع لقوائم التصنيفات العالمية، وأخيراً الكاوست، وما أدراك ما الكاوست؟ وبالمناسبة، فقد كنت في زيارة لإحدى الجامعات الأسترالية قبل نحو شهرين، فقام أحدهم يحدثني عن ذهوله مما رأى وشاهد، وقد عاد لتوه من ثول حيث مثَّل جامعته الشهيرة في حفل افتتاح جامعة الملك عبدالله، كان هذا المسؤول يصف إعجابه الشديد ليس بالمباني والتجهيزات الهائلة فحسب، وإنما بالحماس المتقد والطموح غير المحدود الذي رآه هو وضيوف الحفل في مسؤولي الجامعة ومنسوبيها.. هذا الحماس والطموح الذي يستمد جذوته من مؤسس الجامعة الملك عبدالله -حفظه الله- الذي أعلن أن الجامعة ستمثل، باعتبارها (بيتاً جديداً للحكمة)، منارة للسلام والأمل والوفاق وستعمل لخدمة أبناء المملكة ولنفع جميع شعوب العالم.. ومع أن الاجتماع كان مقرراً له عشرون دقيقة فقط، حيث خصص لدعوة كبار مسؤولي الجامعة الشهيرة للمشاركة في المعرض الدولي للتعليم العالي الذي ستنظمه الوزارة الشهر القادم، إلا أنه استمر نحو ساعتين وتحول إلى مناقشة للقفزات الهائلة التي حققها ويحققها التعليم العالي السعودي في كل اتجاه. وبكل صراحة، فقد كان الانطباع بعد ذلك الاجتماع بأن ما يحدث من نقلات تطويرية شيء مذهل بكل المقاييس وسيبقى علامة فارقة في تاريخ المملكة.
نعم، إن ما تحقق ويتحقق في مجال التعليم العالي في المملكة في الأعوام الأخيرة أمر لم يكن صداه داخل المملكة فحسب، بل بدأنا نلحظ الكثير من الاهتمام به من الجامعات والمؤسسات التعليمية في الخارج، فالإنفاق على التعليم عموماً يُشكِّل نحو ربع موازنة الدولة، والتعليم العالي يحظى في مشاريعه وبرامجه وجامعاته بحصة كبيرة من الإنفاق.. وبدون شك، فإن إنفاق الأموال في مجالات العلم والمعرفة والبحث العلمي والابتعاث يُعد توزيعاً حكيماً للثروة الوطنية بحيث ينتفع بها أكبر عدد ممكن من المواطنين، كما أنه استثمار في العنصر البشري الوطني، سيحقق أهدافه -بإذن الله- وسيؤدي إلى تحولات ثقافية واجتماعية إيجابية، وإلى تنمية اقتصادية مستديمة ينعم بها الجميع، فالمعرفة في عالم اليوم هي مصدر القوة، وهي المحور الأساس للاقتصاد المتقدم في العصر الحديث.
لقد أدى الابتعاث إلى صعود سريع وملحوظ للمملكة في الإحصاءات الدولية المتعلقة ببرامج الدراسة في الخارج studying abroad وأعداد الطلاب الدوليين international students، وعلى سبيل المثال، ففي تقرير الأبواب المفتوحة السنوي Open Doors Report والذي يصدره معهد التعليم الدولي في أميركا The Institute of International Education ونشر قبل ثلاثة أسابيع، حصلت المملكة على المرتبة العاشرة في أعداد الطلاب الدارسين في الجامعات الأميركية، حيث بلغ عدد الطلاب السعوديين 12616 طالباً ضمن 671616 طالباً أجنبياً يدرسون في الولايات المتحدة الأميركية، وقد كنت أترقب صدور هذا التقرير وكنت أتوقع وصول المملكة للمرتبة السادسة أو السابعة، وبخاصة بعد اطلاعي على تصريحات الملحق الثقافي السعودي في أمريكا مؤخراً بأن عددهم نحو 22 ألف طالب!! ولم يكن مفاجئاً كالعادة حصول الهند والصين وكوريا الجنوبية في هذا التقرير على المراكز الثلاثة الأولى، فهذه الدول مستمرة في تحقيق هذه المراكز المتقدمة منذ سنين طويلة، وقد بلغت أعداد الطلاب منها 75.98.103 ألفاً على التوالي.. مما يعني أن طلاب هذه الدول الثلاث يشكّلون نحو 41% من مجموع الطلاب الأجانب الدارسين في الولايات المتحدة.
ومع حصول دول أخرى كالهند والصين وكوريا وتايوان على مواقع تسبق المملكة في الإحصاءات المتعلقة بالطلاب الأجانب الدارسين في الخارج، إلا أن هناك أمرين لا بد من التأكيد عليهما، الأول: أنه عند مقارنة نسبة عدد الطلاب الدارسين في الخارج من دولة معينة بإجمالي عدد طلاب التعليم العالي فيها، تتفوق المملكة على دول كثيرة إذ تبلغ النسبة لها 2.68 مقارنة ب1.35 لليابان و1.5 لتركيا على سبيل المثال، بحسب إحصاءات اليونسكو لعام 2007، وهي آخر إحصاءات متوفرة لليونسكو حيث نشرت قبل خمسة شهور، وإذا أخذنا في الاعتبار تضاعف أعداد المبتعثين السعوديين في العامين الأخيرين فإن النسبة قد تصل إلى 6 أو 7% مما يعني تقدم المملكة على دول كثيرة مثل ماليزيا 6.2 وكوريا 3.28 وهذا يعني أنه حتى لو فاقت أعداد الدارسين في الخارج من دول أخرى أعدادهم من المملكة إلا أن نسبة السعوديين تظل أعلى من طلاب تلك الدول بالمقارنة بأعداد طلاب التعليم العالي أو حتى بعدد السكان.. ولو عدلت هذه الإحصاءات في ضوء ذلك، فإن المملكة ستصبح من أوائل الدول في العالم في نسبة الطلاب الدارسين في الخارج إلى مجموع الطلاب في مرحلة التعليم العالي.. الأمر الآخر، وهو ميزة كبرى لطلاب المملكة، وهو أنهم يدرسون في الخارج ضمن برامج ابتعاث حكومية ومنظمة، تم اختيار تخصصاتها وبرامجها وفق الحاجات التنموية الوطنية، بعكس الدارسين في الخارج من الدول الأخرى، الذين يدرس معظمهم على حسابه الشخصي أو حساب ذويه وبدون متابعة وإشراف حكومي.. هناك حاجة ماسة لإبراز هاتين الميزتين عند الإشارة لموقع المملكة في الإحصاءات الدولية.
ومع هذه التطورات التي يشهدها التعليم العالي في المملكة، من الأهمية بمكان النظر في إنشاء مركز وطني أو معهد بحثي متخصص يُعنى بالتعليم الدولي international education، على غرار ما هو موجود لدى الدول الأخرى من مراكز أو معاهد أو منظمات تُعنى بالتعليم والتبادل الثقافي كمعهد التعليم الدولي في أمريكا The Institute of International Education، أو المجلس الثقافي البريطاني British Council، أو مركز التبادل الألماني المعروف بالرمز DAAD، أو المعهد الوطني للتعليم الدولي بكوريا National Institute of International Education، وغيرها.
إحدى المهمات الأساسية لهذا المركز المقترح هي التعريف بالتعليم الدولي international education - وهو الذي يحظى عالمياً باهتمام متزايد -، وتشجيع البحث العلمي والدراسات في هذا المجال، بالإضافة إلى خدمة الطلاب والباحثين وصانعي القرار في هذا المجال عن طريق توفير البحوث والدراسات والإحصاءات الدقيقة والتقارير عن التعليم الدولي سواء ما يتعلق ببرامج الابتعاث خارج المملكة أو بفرص الدراسة في الجامعات السعودية وبرامج التبادل العلمي والثقافي المختلفة.. ولأننا في عصر الإنترنت، والتي أصبحت هي المصدر الأسهل والأسرع للحصول على المعلومات، فإن من المهم جداً أن يكون لهذا المركز موقع متميز بمحتوى ثري جداً وبإمكانيات ومميزات تقنية وتصميمية عالية، مع عرضه بعدد من اللغات.
وأخيراً، فإن هذا المركز يُفضل أن يكون له كيان مستقل بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والجامعات الحكومية والأهلية وجامعة الملك عبدالله وكذلك التعليم الفني، وأن يقوم بدور مشابه لما تقوم به المعاهد والمراكز المتخصصة النظيرة في الدول الأخرى، مع التعاون معها والاستفادة مما لديها من خبرات وكذلك مع اليونسكو، وتمثيل المملكة في المعارض والمؤتمرات ذات العلاقة، لكي يحقق أهدافه العلمية والبحثية، وليكون المصدر الأول للمعلومات عن أكبر برنامج بعثات تعليمية في العالم، وليؤدي أيضاً دوراً فاعلاً في تعريف الآخرين بنا وبثقافتنا، وليوفر إجابات لجميع الأسئلة التي يطرحها الباحثون والمهتمون، كالأسئلة التي حاصرني بها وفد الجامعة الأسترالية.
أكاديمي.. مؤلف كتاب (الدراسة في الخارج)
www.taleb.net