الجزم قد يكون محموداً، وقد يكون مذموماً؛ فالجزم في إعطاء المواعيد مع الحرص على الوفاء بها منقبة أي منقبة.
|
والجزم في الإيمان، والاعتقاد الحق فضيلة أي فضيلة، إلى غير ذلك من صور الجزم المحمود.
|
أما الجزم المذموم فصور شتى، منها الجزم في إبداء بعض الآراء القابلة للأخذ والرد؛ فتجد أن بعض الناس يطرح رأياً، ويتعصب له، ويزري على من خالفه، مع أن الرأي المخالف قد يكون أقرب إلى الصواب.
|
ومنها الجزم بالتخطئة، وذلك بأن يجزم الإنسان بأن الكاتب الفلاني، أو العالم الفلاني - أخطأ في قوله: كذا وكذا، وقد لا يكون مخطئاً أصلاً.
|
ومنها الجزم بتعبير الرؤى؛ حيث تجد بعض المعبِّرين إذا سئل عن رؤيا جزمَ بأن تأويلها كذا وكذا، وقد يترتب على هذا التأويل فُرقةٌ، وعداوات، كمن يجزم بأن فلاناً عَانَ فلاناً، أو أن هذا المشروع أو الزواج الذي أقدم عليه الرائي غيرُ صالح، إلى غير ذلك من صور الجزم في التعبير.
|
ومن صور الجزم المذموم أن يجزم الإنسان أنه أتى برأي لم يسبق إليه، أو أنه أتى بشيء لن يستطيع أحدٌ مجاراته عليه.
|
ومما يذكر في هذا السياق ما أورده السيوطي في بغية الوعاة أن محمد بن الحسيني ابن عمير اليمني كان مقيماً بمصر، وصنف كتاب أخبار النحويين، وذكر أن له شعراً، وأنه قال أربعة
|
أبيات زعم أنه استنفد قوافيها؛ وأن ليس لقافيتها خامس، والأبيات هي قوله:
|
أسقمني حبُّ مَنْ هَوِيت فقد |
صرتُ بحبه في الهوى آية |
يا غاية في الجمال صَوَّرَهُ الله |
أما للصدود من غاية |
تركتني بالسقام مشتهراً |
أشهر في العالم من راية |
أحبُّ جيرانكم من أجلكم |
بحجة الطفل تشبع الداية(1) |
قال السيوطي: قلت ذيلت عليها بخامس:
|
أود أن أبيت جاركم |
ولو بمأوى الجمال في الثاية(2) |
|
ولما قرأت تلك الأبيات رأيت أنه يمكن إضافة أبيات غير ما ذكر، فزدت عليها سادساً وهو:
|
أو أن أبيت فوق طايتكم |
أحبب بذاك النوم في الطاية |
والطاية - كما في اللسان - في مادة (طيا) السطح الذي ينام فيه، وتطلق الطاية - أيضاً - على الصخرة العظيمة.
|
وهناك كلمات عربية أخرى يمكن أن تختم بها أبيات أخرى، مثل كلمة ساية(3) وقاية كما في التحرير والتنوير 1-446 .
|
والباب مفتوح لمن أراد المزيد.
|
وخلاصة القول أن للإنسان أن يبدي رأيه، ويدعمه بالأدلة، وينتصر له، ولكن لا يحسن به تفنيد الآراء الأخرى القابلة للأخذ والرد، أو الزعم بأن الحق حكر عليه دون غيره، أو اعتقاد أنه لم يسبق إلى ذلك الرأي أو الإبداع، أو أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل ما أتى به.
|
هذا وإن مما يدعو إلى الجزم أموراً منها طبيعة الإنسان الحادة، أو قلةُ اطلاعه، ومعارفه، أو أن يكون في بداياته ومقتبل عمره؛ لأن كثرة الاطلاع، وسعة العلم والأفق تدعو صاحبها إلى التأني والتروي في إصدار الحكم، وتنأى به عن الجزم في كثير من المسائل، بل إن رحمته تتسع، وعُذْرَهُ يُبسط، واعتقاده أن ما غاب عنه أعظم مما اطلع عليه؛ فإذا حكم على أمرٍ كان حكمه كحكم فتاة الحي، ولا يكون كمن غابت عنه أشياء وحضره شيء.
|
يقول الشافعي -رحمه الله-:
|
كلما أدبني الدهر |
أراني نقص عقلي |
وإذا ما زدت علماً |
زادني علماً بجهلي |
(1) الداية: هي الظِّئر، وهي المرضعة التي تعطف على غير ولدها.
|
(2) الثاية: هي مأوى الغنم والإبل، وتُطلق على علامة للراعي إذا رجع إلى الغنم ليلاً؛ ليهتدي إليها.
|
(3) كما في اللسان في مادة (سوا) الساية: تُطلق على الطريق، وعلى وادٍ عظيم به أكثر من سبعين نهراً تنزله مزينة وسليم، وتطلق على وادي أَمَجّ، وأهل أمج خزاعة.
|
وتُطلق كذلك على الفعلة من السوء، وقد جرى في هذا الشأن محادثة مع بعض الأحبة وهو الشيخ صالح بن فريح البهلال، فأضاف بيتاً وهو:
|
خُذني قريباً إلى منازلكم |
تأمنْ من السوءاتِ والساية |
|