Al Jazirah NewsPaper Friday  25/12/2009 G Issue 13602
الجمعة 08 محرم 1431   العدد  13602
من تقوى الله شكر نعمه
د. محمد بن سعد الشويعر

 

إن الواجب على كل مسلم، أنْ يكون رابطته بالله قويّة، وتمكن مراقبة الله في سرّه وعلنه، حتى يحفظه خالقه، وييسر أموره، ومراقبة الله، درجة عالية من درجات العقيدة، لأن الله يقول:....

..?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا? ويقول سبحانه: ?وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ? ويقول: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا? الآيات الثلاث من سورة الطلاق.. ومع بداية العام الهجري الجديد يجب أن يدرك كل منا أهمية التقوى في عقيدته ولذا: جعلت هذه الآيات الكريمة، مدخلاً لموضوع اليوم، وهي قصة من الحكايات الكثيرات التي جاءت عند التنومي في كتابه ذي الأجزاء المتعددة، يدرك القارئ محتواه من عنوانه، الفرج بعد الشدة.. حيث اخترت لك أخي القارئ الكريم واحدة، مما أورد، تأثرت بها بعد أن قرأتها، لأنها تحمل أكثر من معنى، ولأن حقيقتها غريبة، ومفاجآتها أمكن مما يورده كتاب الأقلام، في قصصهم وخيالاتهم، ومما يبرزه الروائيون في مسلسلاتهم، التي تنمق أسلوباً وصياغة.

يقول التنوخي: حدثني عبيدالله بن محمد، عن بعض تجار الكرخ ببغداد قال: كنتُ أعامل رجلاً، من أهل خراسان، أبيع له في كل موسم متاعاً، فأنتفع من سموحته بألوف الدراهم.. فلما كان سنة من السنين، تأخر عني فأثر ذلك في حالي، وتواترت عليّ محنُ، فأغلقت دُكاّني، وجلست في بيتي، مستتراً مِنْ دَيْنٍ لحقني أربع سنين.

فلماّ كان في وقت الحج، صِرْتُ أتتبعّ خبره في الحجاج، وأسأل الناس عنه، طمعاً في إصلاح أمري به، فمضيتُ إلى سوق من أكبر أسواق بغداد، يتجمع فيه الحاج، ليبيعوا ويشتروا، فلم أعط له خبراً، فرجعت ونزلت الجزيرة، وأنا في منتهى الغّم والتّعب، وكان يوماً حاراً، فنزلتُ إلى دجلة، فأغتسلتُ وتبردتُ، وصعدتُ فابتل موضع قدمي، فقلعتْ رجلي وبشدة القطعة من الطين، المخالط للرمل، فانكشف تحتها سيْر، لم أتلفتْ إليه، بادئ الأمر.

فلبست ثيابي وجلست مفكراً، ونظري مولع بهذا السير، وقلبي يدفعني للفضول وأخذه، فلمْ أزل أجرّه حتى ظهر لي هميان - وهو ما نسميه بالكمر - حيث يُشّدُّ على الوسَطِ، لتُحْفَظَ فيه النقود، موصول بذلك السير، فأخذته، فإذا هو مملوء دنانير، فأخفيته تحت ثيابي ووافيت منزلي، وفتحته وعددت الدنانير، فإذا هي ألف دينار.

فقويت نفسي قوة شديدة، وعاهدت الله عزّ وجل، أنه متى صلحتْ حالي وعادتْ، أن أعرف الهميان، فمن أعطاني صفته رددته إليه، خوفاً من الله، وامتثالاً لأمر رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم في تعريف اللقطة.

واحتفظت بالهميان، وأصلحت أمري مع غرمائي وفتحت دكاني، وعدتُ إلى رسمي مِنْ التجارة والسمَسرة، فم أمضَتْ إلا ثلاث سنين، حتى حصل في ملكي ألوف الدنانير.

ثم جاء الحجيج فتتبعتهم لأعرف الهميان، فلم أجد من يعطيني صفتهُ، فعدتُ إلى دكاني، فبينما أنا جالس إذا رجل قائم حيال دكاني، أشعث أغبر، وافر الشعّر، في خلقة الشحاذين الخراسانيين، وزيهم فظننته سائلاً، فأومأت إلى دريهمات لأعطيه، فأسرع بالانصراف، فأرتبتُ فيه، وقمت ولحقته وتأمّلته، فإذا هو صاحبي، الذي كنت أنتفع بسمسرته، في كلّ سنة مما مضى بألوف الدراهم، فقلت له: يا هذا ما الذي أصابك؟ وبكيت رحمة له.

فبكى وقال: حديثي طويل فقلت: البيت. وحملته إلى منزلي فأدخلته الحمام، وألبسته ثياباً نظافاً، وأطعمته وسألته عن خبره.

فقال: أنت تعرف حالي ونعمتي، وإني أردْتُ الخروج إلى الحج، في آخر سنة فجئت إلى بغداد فقال لي أمير البلدة عندي قطعة ياقوت أحمر كالكفّ، لا قيمة لها عظماً وجلالة، ولا تصلح إلا للخليفة، فخذها معك، فبعها لي في بغداد، واشتر من ثمنها متاعاً طلبهُ منْ عطرٍ وطرفٍ بكذا وكذا وأحمل الباقي مالاً.

فأخذت قطعة الياقوت، وهي كما قال، فجعلتها في هميان جلد، من صفته كذا وكذا، ووصف الهميان الذي وجدته، وجعلت في هذا الهيمان ألف دينار، عيناً مِنْ مالي، وحمتله في وسطي، فلمّا جئت بغداد، نزلت أسبح عشياً في الجزيرة، التي قُرْب السوق الكبير، وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظها أثناء سباحتي.

فلما صعّدت من دجلة، لبست ثيابي عند غروب الشمس، وأُنْسيْتُ الهميان، فلم أذكره إلاّ في صباح اليوم التالي، فعدتُ أطلبه، فكأن الأرض ابتعلته، فهوّنت على نفسي المصيبة، وقلتُ: لعل الحجر قيمته ثلاثة آلاف دينار، أغرمها له.

ثم سرت للحج، فلما رجعتُ حاسبتك على ثمن متاعي، واشتريت للأمير ما أراده، مني واصلتُ ورجعت إلى بلدي فأنفذت إلى الأمير ما اشتريته، وأتيته فأخبرته بخبري وقلت له: خذ مني تمام ثلاثة آلاف دينا، عوضاً عن الحجر (قطعة الياقوت).

فطمع فيّ وقال: قيمته خمسون ألف دينار، وقبض عليّ وعلى جميع ما أملكه، من مال ومتاع، وأنزل إلى صنوف المكارة، حتى استولى على جميع أملاكي، وأشهد عليّ في ذلك، وحبسني سبع سنين كنت: يُردَّد عليّ فيها، أنواعاً من العذاب.

فلما كان في هذه السنة، سأله الناس في أمري، فأطلقني.. فلم يمكنني المقام في بلدي، مع تحمل الشماتة من الأعداء، فخرجت على وجهي، أعالج الفَقْر، بحيث لا أُعْرف، وجئت مع الحج الخراساني، أمشي أكثر الطريق، وأعاني الفقر وسوء الحال، ولا أدري ما أعملُ، فجئت إليك لكي أشاورك في معاشٍ أتعلّق به، ولم أذكر أحداً التجئ إليه، بعد الله إلا أنت لكي تشير عليّ بما ترى، بعد أنْ بلغّتْ حالي إلى ما ترى.

فقلت له: قد ردّ الله إليك بعض ضالتك، هذا الهيمان الذي وصفته عندي، وكان فيه ألف دينار أخذتها، وقد عاهدتُ الله تعالى: أنني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني أنت صفته، وَعلمْتُ أنّه لك، وقمتُ فجيئته به، يعني المبلغ - في كيس فيه ألف دينار، وقلت له: تعيش بهذا في بغداد، فإنك لا تعدم شيئاً، إنْ شاء الله، فقال لي: يا أخي الهميان عندك بعينه؟ لم يخرج من يدك؟ قلتُ: نعم.

فشهق شهقة، ظننْتُ أنّه قد مات معها، وغشِى عيه، فلما أفاق بعد ساعة، قال لي: أين الهميان؟ فجئته بهن فطلب سكيناً، فأتيته بها، فخرق أسفل الهميان، وأخرج منه حجر ياقوت أحمر، أشرق منه البيت، وكاد يأخذ بصري شعاعه، وأقبل يشكرني، ويدعو لي.

فقلت له: خذ دنانيرك، فحلف بكل يمين، لا يأخذ منها إلا ثمن ناقة، ومحمل ونفقة تبلغه فبعد كل جهد أخذ ثلثمائة دينار، وأحلني من الباقي، وأقام عندي إلى أن عاد الحاج، فخرج معهم فلما جاء العام المقبل جاءني بقريب ممّا كان يجيئني به سابقاً، من المتاع فقلت له: أخبرني خبرك.

فقال: مضيت، فشرحتُ لأهل البلد خبري، وأريتهم الحجر، فجاء معي وجوههم، إلى الأمير، وأعلموه القصة، وما فيها من غرابة، ورحمة الله لي، وخاطبوه في إنصافي.

فأخذ الحجر، وردّ عليّ جميع ما كان أخذه مني، من متاع وعقار وممتلكات صادرها، وغير ذلك ووهب لي مع ذلك، مالاً من عنده مالاً كثيراً يرضيني به، ويتقرّب به إلى الله في إرضائي، وطلب مني المسامحة، عما أنزل بي من سجن وضرب وعقاب.

وقال: اجعلني في حلّ مما عذّبتك وآذيتك، فأحللته وشكرت الله سبحانه.

وعادت نعمتي إلى ما كانت عليه. وعدّت إلى تجارتي ومعاشي.

وكل هذا بفضل الله، والتوكل عليه سبحانه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (سورة الطلاق 2 - 3).

ثم ببركتك وأمانتك.. ودعا لي.

وكان يجيئني بعد ذلك، وعاد تعاملنا كالسابق، حتى مات.أ.هـ

فما ألذّ مثل هذه النتيجة، وما أعظم أثرها، فقد كان المكسب الحلال، وتقوى الله في التعامل، والاعتماد على الله، وكثرة الدعاء، من أسباب الفرج بعد الشدّة، والتوفيق بعد اليأس.

ولا وفاء لذلك، إلا بالشكر لله سبحانه، والاعتراف بالفضل الجزيل له سبحانه، لأن الله عز وجلّ يمتحن النفوس بمثل هذه، كما قال جلّ وعلا: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (سورة الملك الآية 2).

وهذه الحكاية التي أوردها التنوخي، ذات نتيجة في المصير، مع حكاية أوردها الأستاذ عبدالكريم الجهيمان، في كتابه: في الأمثال الشعبية، وفيها عظة وذكرى ووفاء، نشرتُها في الجزيرة، قبل أسابيع، وهي بين تاجرين: مصري وحجازي، قبل دخول الملك عبدالعزيز رحمه الله الحجاز.

ولعل كل واحد منا، مع بداية العام الهجري الجديد، يجدد صلته بخالقه، ويحسن التوكل عليه، لأن من توكل على الله كفاه، وجعل له من كلّ هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب.

(الفرج بعد الشدة ج3).




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد