الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
لقد دلت النصوص الشرعية على اعتبار حب الوطن والدفاع عنه غريزة فطرية جُبل عليها الإنسان، وأن هذا من الحقوق الطبعية التي يشرع الدفاع عنها، كما أنه يشرع الدفاع عن النفس والمال، والنفس لا يمكن تصورها من دون مكان يعيش فيه الإنسان ليدافع عنه.
وقد ورد في الحديث عند أبي داود وغيره: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه، فهو شهيد).
وورد أيضاً بلفظ عام: (من قتل دون حقه فهو شهيد).
ومن حق الإنسان أن يعيش كريماً في وطنه، وورد بلفظ آخر: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد).
وإذا قارنا هذا النص بقوله تعالى: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ...? الآية، تبين أن من أسباب مشروعية الجهاد دفع الظالمين المعتدين على الأنفس والأوطان والحرمات، وأن من قاتل دون هذه المظالم بناءً على الحديث فهو شهيد.
والمتأمل في نصوص الجهاد المبينة لغايته، المثبتة للأحكام المترتبة عليه يجد أن التركيز على عدوان الكفار على الأوطان، وإخراج المسلمين منها من الأسباب الرئيسة للقتال والجهاد، فمثلاً قول الله تعالى: ?وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ...? الآية. وقوله سبحانه وتعالى: ?أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أول مَرَّةٍ..? الآية، وإخراجه يكون من وطنه وبلده. وقول الله تعالى ?إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ...? الآية.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وفي قسمة الفيئ الذي يكون نتيجة للقتال بيَّن الله تعالى أن من المستحقين له من أخرجوا من أوطانهم؛ فقال سبحانه وتعالى في سورة الحشر: ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً?.
فهذا الجمع من النصوص يبين بجلاء أن الدفاع عن الوطن دفاع مشروع، وغاية حميدة، ومقصد ديني من مقاصد الجهاد، وهو عند التأمل لا يخرج عن قول الرسول : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، لأن علو كلمة الله، ونشر دين الله، إنما تتم حين يتحقق الوطن الذي يكون منطلقاً لهذه الأنشطة والتصرفات التي تخدم الهدف الأساسي، وهو في عموم الأوطان، فكيف إذا كان هذا الوطن إسلامياً، وبلد التوحيد الخالص لله، وكونه مهوى الأفئدة، وموطن المقدسات، وأرض الرسالات، ومهاجر النبي الكريم، ومأزر الإيمان، وقبلة المسلمين في كافة أقطار الأرض، وبانتقاصه وترك الدفاع والذود عنه تنقض عرى الإسلام.. والله المستعان.
ومن يتأمل كلام الفقهاء - رحمهم الله - سلفاً وخلفاً يجد أن حماية الثغور، والمرابطة فيها، والدفاع عن بلاد المسلمين صورة من صور الجهاد المشروع الذي يكون المقاتل فيه مجاهداً في سبيل الله، وإن قتل في هذا المجال كان شهيداً -بإذن الله- وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح: رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً مات مجاهداً، وجرى عليه عمله، وأجري رزقه من الجنة، وأمن الفتان)... أ هـ.
وقريباً منه قال علماؤنا المحققون كسماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حيث ذكر في جواب عن سؤال: هل يعتبر عمل المتطوعين في التعاون مع رجال الأمن من الرباط أم لا؟
فأجاب - رحمه الله -: (عمل المتطوعين في كل بلد ضد الفساد مع رجال الأمن يعتبر من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته، وهو من الرباط في سبيل الله، لأن الرباط هو لزوم الثغور ضد الأعداء، وإذا كان العدو قد يكون في الباطن واحتاج المسلمون أن يتكاتفوا مع رجال الأمن ضد العدو الذي يخشى أن يكون في الباطن، يرجى لهم أن يكونوا مرابطين، ولهم أجر المرابط لحماية البلاد من مكائد الأعداء الداخلين.. إلخ).
وإذا كان هذا في المتطوع، فما بالك بالمعيَّن من قِبَل ولي الأمر؛ لا شك أنه أولى. وقد قال - رحمه الله تعالى - أيضاً: (ولا شك أن الدفاع عن الدين والنفس والأهل والمال والبلاد وأهلها من الجهاد المشروع، ومن يُقتل في ذلك وهو مسلم يعتبر شهيداً.) ا.هـ.
ونُقل مثل ذلك أو قريب منه عن سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى. وقد سألت سماحة الوالد الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية عن عمل جنودنا البواسل وما يثيره البعض حول اعتباره جهاداً، فقال -حفظه الله: هو لا شك من الجهاد في سبيل الله، وإذا كان من قتل دون أهله أو عرضه شهيد فكيف بالمجموع، بل هو جهاد في سبيل الله، يدخل فيما قاله رسول الله: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، لأنه قتال ضد من يستهدفون حدودنا، ويريدون الاعتداء على مقدساتنا، ويتعاونون مع أطرف خارجية ودولية تستهدف الإسلام. وعن وصف من قتل في هذا السبيل قال: هو في سبيل الله، وشهيد عند الله، بل من قتل في المعارك يعامل معاملة الشهداء من حيث إنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه لعظم ما قدمه، وذلك لأنه قتال ليس ضد البغاة أو قطاع الطرق وإنما هو أعظم من ذلك، فمن يقاتلهم جنودنا لهم أهداف وأطماع في هذه البلاد.
كما بين فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله - حيث ذكر أن ما يقوم به رجال الأمن في مواجهة الخوارج والفئة الضالة جهاد في سبيل الله بل من أعظم أنواع الجهاد فقال: (وإذا تقرر أن عملهم هذا جهاد في سبيل الله فقتلوا بناءً عليه فهم شهداء بإذن الله؛ لأنهم دافعوا عن دينهم ووطنهم ومجتمعهم). ا هـ.
وبناءً على ما تقدم ذكره فإن التركيز على هذه الأمور وإبرازها على أنها من الصور غير المشروعة تجاسر على النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم التي أشرنا إلى شيء منها، وتجاوز لمعالمها، وجرأة على ما فهمه علماء الأمة المحققين كما سبق، وفيه من التجني على رجال الأمن في بلادنا وما يقومون به من جهاد ومدافعة المعتدين والمفسدين والعابثين بأمن الوطن وسلامته ما لا يخفى على أحد.
سائلاً الله تعالى أن يحفظ بلادنا وقادتها وعلماءها وأمنها من كل سوء وبلاء وفتنة ومكروه، وأن يرزقنا الإخلاص والسداد في القول والعمل والمعتقد إنه حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية