إن الجماعات والتنظيمات التي يخرج منها هؤلاء الأفراد لها خصائص تنظيمية مميزة لها عن غيرها من الجماعات الطبيعية. تجعل منها بيئة خصبة لتفريخ جحافل الإرهاب.
فالمؤسس لها عادة شخص واحد يقبع في قمة التنظيم.
وتتركز القرارات المصيرية للجماعة عنده وبيده. ولهذا القائد خصائصه المميزة له دون سائر الأعضاء. إذ إنه من يعين نفسه بذاته.
ويزعم بأن له رسالة في هذه الحياة، وأنه يملك من المعرفة والدراية بموضوع الرسالة ما لا يدركه غيره. ويؤكد ويجزم بما يرى وينادي به بقوة. وهذه من مقومات انجذاب سائر الأتباع له كشخصية كارزماتية تمارس تأثيرها السحري في الانصياع لمطالبه. وقد يكون محقاً فيما يزعم ويرى إذا ما افترضنا أنه يعاني خللاً في التفكير والفهم والتصور. وقد يكون محتالاً مخادعاً دجالاً. وعموماً، يتسم هذا النوع من القادة بالتسلط في إدارته لشؤون الجماعة. لذا تأخذ العلاقة بينه وبين سائر الأتباع شكل الحرف (T) حيث ينفرد وحده بالصلاحية كقائد في قمة الهرم. ويبقى سائر الأعضاء أسفل القاعدة متلقين لتوجيهاته وأوامره. إنه المحق المنصف المنجز، مصدر الإلهام والإيهام، يعلو ولا يعلى عليه. وكأن حاله تقول (لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد). وعلى الرغم من تسلطه الظاهر كما يبدو من واقع طبيعة التنظيم السلطوي للجماعة، إلا أنه قد يفوض شيئاً من صلاحياته لمن هو أدنى من الأتباع بهدف مساعدته لتحقيق مزيد من الانصياع لأمانيه ومطالبه. ويظهر الابتداع والابتكار كسمة واضحة لقيادة هذا النوع من التنظيمات، حيث يزعم قادتها بأنهم قد أُوتوا من المعرفة ما لم يؤت إياها غيرهم مما هو غير معروف وخارج عن نطاق المألوف من التفسيرات والتأويلات والتقاليد والممارسات. وأن لديهم من الأفكار والحلول المبتكرة لمآسي ومشكلات العالم ما لم يتأت لغيرهم. كما يدعي قادة هذه الجماعات بأن من ينتمي لعضويتها ليس كغيره من الناس. إذ هم صفوة من الأخيار. في الوقت الذي يتم فيه الحط من إنسانية وخيرية غيرهم. وما فكرة التكفير وإباحة سفك الدماء وإيثار الاعتزال وعدم الاختلاط بمجتمعاتهم الأصلية إلا أثر من آثار هذا التكتيك في التجنيد لهذه الجماعات. والأسوأ في التجنيد لهذه الجماعات ما تتصف به أخلاقيات الجماعة من ازدواجية في المعايير، حيث الانفتاح والشفافية والأمانة مطلب رئيس في التعامل مع قائد الجماعة وأفراد التنظيم. بالمقابل، يشجع الأتباع على ممارسة الخداع والتضليل وسوء الاستخدام للناس من خارج الجماعة والتنظيم عملاً بمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).
هذا من ناحية، ومن ناحية أساليب الجماعة في تجنيد الأتباع لها، تستخدم الجماعات برامج في الإقناع مبتكرة متجددة. تنشد تحقيق أعلى مستوى من الطاعة لأوامر القادة والامتثال لتوجيهات الجماعة. فضلاً عن الاجتهاد في الإبقاء على العضو في التنظيم ومقاومة أي محاولة لدفعه إلى الخروج على الجماعة. ومن أبرز خصائص برامج الإقناع التي تعتمدها التنظيمات التابعة لهذه الجماعات اتصافها ب:
1) الشمولية والإحاطة في ضبط سلوك الأعضاء. إذ لا يقف الضبط والتحكم على أمور ومطالب معينة بل يمتد ليشمل الضبط كل مظاهر حياته وأنماط علاقاته، (ما يأكل العضو وما يشرب وما يلبس، وبماذا يفكر وبمَن يتصل ويرتبط ؟!).
2) شمولية الايديولوجية التي تبشر بها الجماعة، لتحدد على أساس منها تصوراته حول الكون والحياة ورسالته فيها، ونظرته لنفسه والجماعة التي ينتمي إليها وما يجب أن تكون عليه علاقته بسائر البشر. وغالباً ما تتسم هذه الايديولوجية بالتطرف والتزمت في النظرة للكون والحياة بما يمكن من الإغلاق والإطباق على تفكير الأتباع فلا يرون صواباً إلا فيما تراه الجماعة.
3) المبالغة في توقعات الالتزام لأهداف التنظيم. تغالي الجماعة في مطالبها وما تأمله من أعضاء التنظيم. إذ تتوقع أن يبذل الأتباع المزيد من الجهد والطاقة والمال وما تجود به النفس كي تتمكن الجماعة من بلوغ أهدافها. وترى أن في الجود بالنفس أقصى درجات الالتزام لأهداف الجماعة. ويتم التصريح والتلميح بشكل متكرر بأن بلوغ أعلى مستويات الإخلاص والورع والتقى يكمن في الالتزام التام بتعاليم الجماعة وتنفيذ مطالبها. وإن استدعى الأمر التضحية بالنفس في سبيلها. وللتمكين من التسليم بهذه المطالب يتعرض الأتباع عادة لوابل من الدروس والمحاضرات المليئة بالشواهد والأدلة والتأملات لدفعهم إلى بلوغ المستوى المطلوب من الالتزام للجماعة. وتمارس الجماعة ضغوطاً على الأتباع تجبرهم من خلالها على تغيير مسار حياتهم الذي اعتادوا عليه في بيئاتهم التي قدموا منها قبل الانضمام للجماعة. ليتبنوا نمطاً جديداً من العيش فيه خدمة للجماعة وقيادتها. فتعمد الجماعة إلى تحديد ما يحسن بالأتباع أن يتخذوه من ملبس ومأكل ومشرب ونوم وإقامة. وما يجب عليهم أن يعتقدوا بصحته ويفكروا به، ومن لهم حق الارتباط به والولاء له. وعادة ما يصاحب ذلك طقوس من الممارسات في شكل ترانيم وأناشيد وأهازيج أو صيحات وتكبيرات. يلزم الأتباع بالإتيان بها بشكل متكرر. تعمل عملها كصمام أمان في الحفاظ على ما تم تشريبه للمجند من أفكار ومعتقدات. وتساعد في تسهيل عملية الاستجابة لمطالب التنظيم. إذ تختزن في الذاكرة لتمارس تأثيرها في التذكير بالمهام والواجبات وتقديم فروض الطاعة للقيادة، والمسايرة في الإتيان بما يتسق وأهداف التنظيم وغاية الوجود في الكون.
كما تستخدم ضغوط الأقران كآلية تحفز على مواصلة الانضمام للجماعة، والحد من محاولات الخروج على التنظيم. وفي بعض المواقف تستغل الجماعة ما يعانيه المجند الجديد من أزمات شخصية ومشكلات أسرية كأداة ضغط تدفعه إلى التسليم بمطالب الجماعة والامتثال لها ومقاومة أي محاولة للتخلي عنها.
ويبقى تعزيز الأحادية في التفكير مذهباً رئيسياً لهذه الجماعات في تنشئتها لمجنديها، تظهر آثاره في نمط التفكير والمسلك والمظهر الذي يسمى عادة سلوك الأتباع، من هجر للأهل وإيثار لطاعة القادة والأتباع على الأهل والأحباب ورفض للرأي الآخر ومحاربة لأي تصرف مغاير لتقاليد ومعايير الجماعة. وهذا التكتيك في العزل واحد من أكثر تكتيكات التحكم والضبط للأتباع شيوعاً. يؤصل للاعتمادية على القيادة والأتباع. ويسهم في تحقيق المزيد من الانصياع لمطالب الجماعة. فضلاً عن أن فيه ضمان الالتزام المتواصل للجماعة والحد من التأثير الخارجي الذي قد يكون مدخلاً للتخلي عن الانضمام للتنظيم. ونجد مثالاً حياً لأبسط صور استخدام هذا التكتيك فيما يُعرف (بالمفاصلة اللا شعورية) بين أفراد بعض التجمعات الدينية.
* أستاذ علم النفس الاجتماعي - جامعة الملك سعود
عضو الفريق العلمي - كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري
يتبع الحلقة 3