Al Jazirah NewsPaper Wednesday  23/12/2009 G Issue 13600
الاربعاء 06 محرم 1431   العدد  13600
حقيقة الولاء والبراء
د. عبدالوهاب الشقحاء

 

يختلط على كثير من قليلي الثقافة الشرعية المفهوم الصحيح لعقيدة الولاء والبراء من الكفار، إذ يرون أن مجرد وجود أي علاقة مع الكفار سواء كانت علاقة عمل أو مجالسة، أو مجاملة، أو الإحسان إليهم،

هي من المحظورات الشرعية التي توصل من يقيمها مع الكافر إلى الكفر، وأنه يجب على المسلم كره الكافر في كل الأحوال والصفات، والاصطدام معه في كل الظروف والأمكنة، وهذا الزعم من الأخطاء التي تظهر سطحية مَنْ يعتنق هذه الرؤية وهذا الفهم الخاطئ للولاء والبراء، وقد استغل أعداء الوسطية في الإسلام من الجماعات التكفيرية ودعاتها هذا الفكر وبدأوا بشحن بعض شباب المسلمين المتحمسين ضد مجتمعاتهم، وضد حكامهم حتى أوصلوهم إلى تكفير الأمة بحجة موالاتها للكفار ثم سوغوا لهم استباحة دماء وأموال آبائهم وأبنائهم وبلدانهم بناءً على هذا التصور الخاطئ، وقد تمثل ذلك في التفجيرات الانتحارية التي حدثت وتحدث هنا وهناك، على أن الفهم الشرعي والصحيح لعقيدة الولاء والبراء يتضح من تعريفها الشرعي المستمد من المعنى اللغوي لهما.. فالولاء في اللغة هو القرب وفي (المغرب في ترتيب المعرب: 2-372): جاء ما نصه (والولاية بالفتح: النصرة والمحبة وكذا الولاء.. والموالاة: المحاماة والمحابة والمتابعة)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد. والوليُّ القريب، فيقال: هذا يلي هذا أي يقرب منه) (مجموع الفتاوى: 11-160). وأما البراء: فتعريفه لغة من التباعد من الشيء قال البيضاويُّ: أصل تركيب البرءِ لخلوص الشيء من غيره) (تاج العروس: 1-76). وقال ابن الأعرابي: (بَرِئَ إذا تخلَّصَ، وبَرِئَ إذا تنزَّهَ وتباعدِ) (لسان العرب: 1-356). وعلى هذا فتعريف الولاء والبراء في الاصطلاح الشرعي هو: (محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه بتحقيق التوحيد وإفراده بالعبودية، مع بغض ومعاداة كل ما يعبد من دون الله من الطواغيت والآلهة والأنداد والأهواء)، أنظر حقيقة الولاء والبراء - السناني ص 43، وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (أصل دين الإسلام وقاعدته: أمران الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والمولاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليط في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله) الدرر السنية: 2-22، وقال ابن القيم رحمه الله: (البراء من عبادة غير الله والولاء لله وأن ذلك هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علماً ومعرفة وعملاً وحالاً وقصداً) مدارج السالكين: 1-167.

وعلى هذا يتضح أن حقيقة عقيدة الولاء والبراء هي أنها تطبيق لمعنى شهادة لا إله إلا الله، فالولاء يقابل الإثبات فيها (إلا الله) والبراء يقابل النفي فيها (لا إله)، إذ إن شهادة لا إله إلا الله تنقسم إلى نفي وإثبات، فإذا صُرفت العبادة كلها لله وأقر بأنه المستحق وحده للعبادة تكون قد اعتقدت وأديت نصف الشهادة وهي قولك (إلا الله) والنصف الثاني منها هو قولك لا إله، وهو يقتضي الكفر بكل ما يعبد دون الله، وعلى هذا فمناط التكفير في باب الولاء والبراء هو على عمل القلب لا على آثاره فمن أحب الكافر لكفره، أو تمنى انتصار دين الكفر على المسلمين فهذا موجب الكفر في باب عقيدة الولاء والبراء، لأن من شروط لا إله إلا الله الكفر بما يعبد من دون الله وحقيقته هو البراءة من الشرك وأهله، وموالاة التوحيد وأهله، وتحقيق هذا الشرط يتمثل: باعتقاد كل مسلم بطلان عبادة غير الله، وبطلان كل ملة من ملل الكفر سواء كانت يهودية، أو نصرانية، أو غيرها وأن أهلها إذا ماتوا عليها فهم في الآخرة من أصحاب النار تحقيقاً لقوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (85) سورة آل عمران، ومصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم رحمه الله (والذي نفسي بيد لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار). وهذا يقتضي منك عداوته وبغضه، وذلك لكونه يدين بدين غير دين الإسلام. قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله بعد أن بيّن أن معنى الولاء والبراء هو محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم والبراءة منهم ومن دينهم، قال: (ليس معنى بغضهم وعداوتهم أن تظلمهم أو تتعدى عليهم إذا لم يكونوا محاربين، وإنما معناه أن تبغضهم في قلبك وتعاديهم بقلبك ولا يكونوا أصحاباً لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرهم ولا تظلمهم، فإذا سلموا ترد عليهم السلام وتنصحهم وتوجههم إلى الخير كما قال الله عز وجل: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (46) سورة العنكبوت، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وهكذا غيرهم من الكفار الذين هم في أمان أو عهد أو ذمة لكن من ظلم منهم يجازي على ظلمه، وإلا فالمشروع للمؤمن الجدال بالتالي هي أحسن مع المسلمين والكفار مع بغضهم في الله للآية الكريمة السابقة).. مجموع فتاوى ومقالات: 5-246. وكثير من المغالين لا يتصوروا وجود المحبة من المسلم للكافر نهائياً ويرون أن محبة الكافر المحبة الطبيعية تنافي البراءة من الكفر وهذا أصل خللهم، لأن هذا الكافر قد يكون ابناً، وقد يكون أباً، وقد تكون أماً، وقد تكون زوجة، فهل يعتقد أحد بأن الله قد كلفنا بغضهم بمعنى أن نكرهم الكره الذي لا يصح اجتماعه مع المحبة؟.. فلو كان الجواب بنعم، لكان تكليفاً بما لا يطاق، لأنه لا يمكن أن تنزع محبة الإنسان لابنه المحبة التي فطره الله عليها، وإن كان هذا الابن كافراً، وكذلك بالنسبة للابن مع أبيه لو كان الأب كافراً. بدليل قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (56) سورة القصص، فقد أثبت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، وأُذنَ له بزيارة قبر أمه، وهذا لا ينافي براءته من الكفار، فالمودة المنهي عنها هي في حقيقتها بمعنى التولي وليس بمعنى المحبة الطبيعية التي يجدها الإنسان في نفسه، فالبغض، والعداوة المطلوبة من المسلم للكافر هي التي تختص بالدين، فإنك رغم محبتك له تعلم وتعتقد أنه ضال، وأنه لو مات على ذلك كان من أصحاب النار، وتقتضي البراءة منه أيضاً أن لا تجامله في أي أمر من أمور الدين، فلا يجوز لهذه المحبة أن تكون سبباً في طاعتك له في أمر يخالف أمر الله ورسوله أو نهيهما، ولذا فإن علماء السلف الصالح جمعوا بين آيات النهي عن موالاة الكفار وآيات الإحسان إليهم. فقال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في القاعدة الثانية عشرة في الجميع بين آيات النهي عن موالاة الكافرين وآيات الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان، فذكر قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (8-9) سورة الممتحنة. قال: (فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة، أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان).. (القواعد الحسان -24)، ولذا فكل من كان له مع المسلمين عهد أو عقد يجب عدم ظلمه ولا بخس حقوقه، ويكون معصوم الدم والمال، ويسن الإحسان إليه وبره، حتى الكافر الحربي إذا دخل بأمان فيكون دمه معصوماً، كالرسل بين المقتتلين في أيام الحرب، وهذا محل إجماع بين العلماء).. كما أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج بالكتابية من اليهود والنصارى، ولا بد أن يكون هناك مقدار من المودة التي تكون بين الزوجين مع حصول اختلاف الدين بينهما، ولكن هذه المودة لا تنافي الولاء، والبراء بدليل قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (21) سورة الروم. فلو كان المقصود بمودة الكفار مجرد المحبة، لكانت محبة الرجل المسلم لزوجته الكتابية مناقضة لهذه الآية، فكيف يؤذن للمسلم بالزواج من الكتابية ثم يؤمر بأن لا يودها ويرحمها. ومن المجمع عليه أن الإسلام قد أجاز التعامل مع الكفار بيعاً وشراء، وغير ذلك من العقود الجائزة، ولا بد أن تكون هناك علاقة مترتبة على مثل تلك المعاملات، ولكنها لا تنافي عقيدة الولاء، والبراء منهم. قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: (ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم، وليس الأمر كذلك، فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعان بالمطعم بن عدي، أو بعبدالله بن أريقط، أو بيهود خيبر موالياً لأهل الشرك، ولا متخذاً لهم بطانة، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم، وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم. فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه، وأن ينزل الأدلة منازلها).. مجموع فتاوى ومقالات 7 ص 364.

كما أن الإسلام لا يجيز نصرة المسلمين بعضهم لبعض على الكفار إذا كان هناك عهد بين المسلمين وهؤلاء الكفار ولا يعتبر ذلك مما يناقض عقيدة الولاء والبراء واستدل على ذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (72) سورة الأنفال. روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قوله: (يعني إن استنصركم الأعراب المسلمون أيها المهاجرون والأنصار على عدوهم فعليكم أن تنصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)، وكذلك أن النصرة الواجبة للمسلمين من بعضهم لبعض إنما تكون إذا كان قتال المسلمين للكفار دينياً والهدف منه إعلاء كلمة الله، فإن كان القتال لغير الدين كما يحصل في عصرنا الحاضر في بعض الأحيان كأن يكون لمقاصد دنيوية كقتال الكفار لأجل الأرض أو العصبية القبلية، أو لتحقيق طموح سياسي لا ديني، للحصول إلى السلطة دون ارتباط بالقواعد الشرعية فهنا لا تجب نصرة هؤلاء بدليل قوله تعالى: (َإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ).. فجعل الله علينا نصرتهم إذا كان القتال دينياً. انظر حقيقة الولاء والبراء - السناني ص 111-112. وعلى هذا فإن من يتجرأ أو يعتدي على أهل الذمة، أو المعاهدين، أو المستأمنين من الكفار سواء في بلاد المسلمين أو بلادهم فإنه قد تعرض للوعيد الشديد وقد هتك بذلك عهده وذمته واستحق العقاب في الدنيا والآخرة، روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) 6-311-3166، وروى أبو داود في سننه في باب (تعظيم قتل المعاهد) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفساً معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها) 3-83-2760.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قتل المستأمنين في البلاد المسلمة: (ولا يخفى علينا أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولا يخفى علينا أن الائتمان أو التأمين أو الإجازة يكون حتى من واحد من المسلمين، وإن لم يكن ولي أمر حتى ولو كانت امرأة قال النبي صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت يا أم هاني) فكيف إذا كان الأمان من ولاة الأمر؟! فهذا عين المحادة لله ورسوله، وعين المشاقة لله ورسوله -لمن يعتدي عليهم-). وخلاصة القول إن الضابط المتفق عليه عند أهل السنة والجماعة (أن الولاء للكفار المخرج من الملة يتمثل في الموالاة الدينية التي فيها موافقتهم على دينهم أو الرضا به وبأفعالهم، ومناطه هو عمل القلب فحب الكافر لكفره، أو تمنى انتصار دين الكفار على دين المسلمين فهذا هو المخرج من الملة، وبسبب الغلو والجهل في فهم مناط التكفير في باب الولاء والبراء واستخدام عموميات النصوص في التكفير نتج عن هذا الفهم الخاطئ للبراءة من الكفار أعمال محرمة في الإسلام كاستباحة دماء الذميين أو المعاهدين أو أموالهم أو الاعتداء عليهم بغير وجه حق وكذلك الاعتداء على المسلمين من ولاة وغيرهم واتهامهم بالكفر والفسوق والدعوة إلى الخروج عليهم، ومن اعتقد ذلك وعمل بموجبه فقد أخرج نفسه من دائرة الإيمان والإسلام الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، وألحق نفسه بمذهب الخوارج قديماً وحديثاً ومن سار على نهجهم من الإمامية والطوائف المبتدعة الأخرى.



dr-a-shagha@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد