كانت الشمس تنسحب إلى الأفق البعيد، لتنكسر في جنح الظلام، وتختصر المسافات نحو عتمة الليل، وأنا أقرأ كتاب (عيناي تدمعان)، فتذكرت أجراساً ما عادت تدق، وحزناً مر من أمامنا وخلفنا، ومن جميع الاتجاهات.
إهداء -أستاذنا- خالد المالك كتابه، إلى كل من مسه الجزع والأسى والحزن في حياته، وإلى كل مكلوم عاش لوعة الفراق مع من يحب، وإلى كل من دمعت عيناه، وبكى كثيراً وطويلاً تأثراً على من رحلوا من دنياهم ودنياه كان مثيراً. فكلماتك أبا بشار نثرت آلامنا وأحزاننا، وحروفك رسمت أجمل صور الفراق للقادم من المجهول. فالسكون الخالي من الحركة -هذه المرة- سيطول، بعد أن بحثنا عن تجارب الآخرين، ونظرنا في آثار السابقين، وأيقنا أن الموت احتضن من أحببناه على مر السنين دون موعد، فانطفأت شمعة الفرح، وهاجت المشاعر، وامتد الحزن على شفاف الروح حين غابوا وما عادوا، نبكيهم في المساء وفي الصباح.
أبا بشار.. انحبست أنفاسي وأنا أقرأ رثاءك في ابنك (فهد)، والتي كانت كلوحة فنية لا يعيها سوى من عاش التجربة. فتعاطفت معها، وتحسست حزناً عليها بعد أن رسمت خطوطها بإتقان، وترجمت مشاعرك في أسلوبك الإنساني بكل دقة. وما ذاك إلا لأن الحصيلة التي جمعتني مع من فارق حبيباً، هو: رائحة الموت المميزة، وذلك حين فارقتني ابنتي (روان)، ويداها متشبثتان بيدي، بعد أن قضيت بها أحلى عامين. وإن كانت صغيرة لا تفهم الحياة، ولا تفاصيل الحكاية، لكني حملت خلالها ذكرياتي فوق راحة يدي، وشممت رائحة الموت حين عبقت في كل مكان، وعبرت طفلتي إلى ضفة الموت عبر بوابة المغادرة النهائية للحياة، فما بين البداية والنهاية عمر قصير، وهذا هو اختيار الله.
عذراً إن خانني التعبير، لكنه الموت، الذي إذا مال على أحد مال، وكأن لسان حاله يقول لنا: إن عاقبة الألفة إلى فرقة، وإن ختام الفرحة إلى حرقة. وستفيض أعيننا من الدمع حزناً على من باغتهم الموت دون خيار، ونبكي على فقدانهم بكاء الأطفال.
اطمئن يا زمان، فهم وإن فارقوا الحياة، إلا أن ذكراهم لا تزال حية في قلوبنا، دون أن نبقى في زاوية الحزن مدى الحياة. وسنعصي القلم عندما تتمرد الكلمات، لأننا بحاجة إلى إحساس فائض بلا مسافات، علها تخفف عنا الألم. فهذا هو الخبر الذي لا يحتاج إلى مبتدأ، فالكل يموت، وليس يبقى سوى ذي العزة والجبروت.
drsasq@gmail.com