عندما نقارن بين مجموع الفتاوى التي كانت رائجة في فترة التسعينيات، والتي كانت تحظى بنجومية شعبية، مع انتشار كتائب تدافع عنها وتذود عن حياضها، بمجموعة أخرى من الفتاوى الحديثة التي تتقاطع معها أو لربما تلغيها وتنسخها بهدف توسيع الضيق والتفريج عن المسلمين وتقريبهم من روح العصر وشروطه.. سنجد بوناً شاسعاً.
وبالتأكيد هذا الأمر يجعلنا على يقين بأن الفتوى تتأثر بزمانها ومكانها والفضاء العام الذي تصدر عنه وتعكسه، ولعل هذا الأمر متعارف عليه عبر تاريخ الفقه الإسلامي, فالإمام الشافعي كانت له فتوى في العراق تغيرت حال وصوله إلى مصر. ففترة التسعينيات والثمانينيات هي فترة جيشان المد الصحوي المتشدد بجميع مظاهره وتجلياته، مع اكتساحه المنابر بجميع أشكالها، إضافة إلى تعسكر بعض أجنحته عبر مخيمات داخلية وخارجية (أفغانستان والشيشان والبوسنة) وجميع المعسكرات التي كانت تعمل على انتقال المد الأيدلوجي من جانبه التنظيري إلى عمله العسكري تحت مظلة حلم استعادة الخلافة الإسلامية.
ولكن مع انحسار ذلك المد وانكماشه على أكثر من صعيد، (ولا أميل إلى ربط ذلك الانحسار بحادثة سبتمبر 11، فمن المستحيل أن تنحسر أيدلوجيا عارمة نتيجة لحادثة واحدة فقط) لكن قد يكون أهم أسباب انحساره هو عجزه عن الارتباط بواقعه وتلبية أحلام وطموحات المجاميع المسلمة التي تحلم بأن تجد لها حيزاً في الواجهة الحضارية والركب العالمي.. لذا فمع ذلك الانحسار لتلك المرحلة بدأ المشهد على المستوى الديني يحتل من قبل أسماء تميل إلى التسامح والبعد عن التشنج مستجيرة بمقولة البدء بإصلاح الذات وجهاد النفس الأكبر, وأخذ الفضاء العام حولنا يحتفي بمصطلحات الحوار والتعايش وقبول الآخر والتعددية، وما هنالك من المصطلحات المستقاة من وعي متسامح.
وبالتالي هذا المناخ العام من التسامح وتوسيع الضيق, ومغادرة الشكلانية والطقوسية، واستبدالها بروح الدين ومقاصده الكبرى، انعكست على مادة الفتاوى، فظهرت فتاوى تنسخ الفتاوى السابقة وتلغيها، على سبيل المثال تلك التي تخص المرأة وأرديتها فصار هناك وعي جمعي بأن مسألة كشف الوجه للنساء هي مسألة خلافية، وقضية (النمص) التي أهدر فيها الكثير من الوقت وأريقت الكثير من الأحبار باتت محل خلاف بوجود فتوى تميل إلى جواز نزع بعض شعر الحواجب للتجمل للزوج، إضافة إلى فتاوى تجيز الاحتفال بعيد الزواج والميلاد، وغير ذلك من الفتاوى التي نسخت ما انشغل به جيل التسعينيات في تحريمه ومنعه وتجريم مرتكبيه، حتى انتهينا بالفتوى القنبلة من الشيخ الغامدي بجواز الاختلاط وبجواز أن تفلي المرأة شعر الرجل و ترجله وتقصه وتمشطه. المفارقة هنا أن الفترة بين العصرين سريعة وخاطفة وتفاصيلها مازالت ماثلة في الأذهان، حتى لأننا نشعر بأن الكثير بات يعاني من انفصام بين مرحلتين, جميع هذا دون أن يكون لمجمع الفقه الإسلامي إصدار سنوي متداول بين الأيدي يبرز به الناسخ والمنسوخ، وما استجد من الفتاوى وما نسخ منها، وما استطاع أن يصمد و يمتثل لروح العصر ونبضه.