Al Jazirah NewsPaper Sunday  20/12/2009 G Issue 13597
الأحد 03 محرم 1431   العدد  13597
شارع الشهيد (فرمان خان)..؟
حمّاد بن حامد السالمي

 

لم يقف متفرجاً على المشهد الرهيب الذي يراه متمثلاً أمامه. كان السيل يكتسح الشوارع، ويجرف معه السيارات والأمتعة والناس وكل شيء. كان الموت حاضراً في أصوات تأتي من بعيد، وهي تصرخ وتستغيث، ثم ما تلبث أن تخبو وتموت مع أصحابها.

ترك الشاب متجره الصغير المتواضع دون أن يغلق أبوابه، ثم أودع مفاتيحه وجواله ومحفظة نقوده إلى أقرب شخص له مع الواقفين، الذين تسمروا أمام مشهد السيل وهو يتخطف الناس من أمامهم وهم حائرون لا يدرون ما يصنعون. كلمات قليلة رددها الشاب الشجاع الذي ما لبث أن أتبعها بأفعال بطولية. قال في صورة احتجاج وتمرد على حالة التفرج في هذا المشهد المهيب: (فيه ناس كثير يموت عند مستوصف). ست كلمات قالها في جملة بسيطة موحية لما هو آت. ربط الشاب نفسه بحبل موصل بمكان انطلاقه، ثم قام بأربع عشرة طلعة إغاثية، وسط اليم الذي يهدر بما يحمل من حجر وبشر وشجر إلى هاوية الموت. استطاع الشاب الشجاع إنقاذ أربع عشرة نفساً من الغرق والموت. في كل طلعة بطولية له كان ينقذ نفساً بشرية من سكان جدة. كان يمكن أن تفقد جدة أربع عشرة ضحية أخرى تضاف إلى عدد ضحاياها في كارثة سيل الربوع، في الثامن من شهر ذي الحجة الفارط، لولا لطف الله بعباده، وبطولة شاب شجاع، قهر سيل الربوع، وتصدى للموت، وكتب الله على يديه نجاة وحياة جديدة لأربع عشرة نفساً، كانت تتلاطمها الأمواج، وتتقاذفها هياكل السيارات، وتطفو وتغطس وهي تنتظر مصيرها المجهول. يا الله.. يا لأعجوبة القدر.

جاء دور الطلعة الخامسة عشرة للشاب الشجاع، ولكن.. يا سبحان الله.. ذهب المنقذ هذه المرة لينقذ نفساً جديدة ففقد حياته. لم يستطع إنقاذ نفسه هو، ولم يجد من ينجده فينقذه. ابتلع السيل قاهر السيل، وأخذ الموت من تصدى للموت. قدم الشاب النبيل روحه فداءً لأنفس كثيرة، راعه منظرها وهي تغرق أمامه، وتموت في السيل الجارف.

من هو صاحب هذه الملحمة البطولية، الذي طرز بها تاريخ مدينة جُدة، وراح المجتمع الجداوي كله يفخر أن كان هذا البطل واحداً من سكان جُدة..؟

إنه الشهيد (فرمان علي عمر خان)، الباكستاني الذي ترك بعده والده الطاعن في السن، وزوجة وثلاث صغيرات هن: (زبيدة ومديحة وجويرية).

رحم الله شهيد جُدة البطل: (فرمان خان)؛ فهو الذي كرّ وما فرّ، وكم من رجل غيره في هذا الموقف (فرّ... مان)؛ فما كان همه إلا نفسه، وما شَغَله إلا ما يجمع ويكسب، حتى مع وقوع الكارثة، وضبابية الحياة لآلاف الأسر في خمسة وخمسين حياً سكنياً، غمرتها الأمطار، واجتاحتها السيول، وحلّ بأهلها الموت والدمار والخوف والرعب.

أفرزت الكارثة في جدة مواقف كثيرة لا عد لها ولا حصر. مواقف سلبية وأخرى إيجابية. دعونا ننظر هنا إلى النصف الملآن من الكأس. كانت هناك مواقف إيجابية غالبة دون شك. المواقف البطولية في صورة كهذه كانت واضحة وبارزة، ومنها تطوع خمسة آلاف شاب وشابة لنجدة المنكوبين والتخفيف عن المحزونين. أما الموقف البطولي، الذي سوف يقف وحيداً في تاريخ جدة مع ذكر هذه الحادثة، فهو موقف الشهيد (فرمان خان). هذا أمر لن يماري فيه أحد على ما أظن، فهل هناك من نهج نهجه، وفعل فعله، وقدم روحه فداء لأرواح وأنفس، ليست من قرابته ولا من أهله، ولا يعرف عنها شيئاً، وإنما دفعته شهامته وبطولته وشجاعته إلى أن يمخر عباب اليم، ويصارع موجات السيل، ويحمل على كتفيه هذا الرجل، وذاك الطفل، وتلك المرأة، فينقلهم جميعاً، من موت محقق، إلى حياة جديدة، ثم ما يلبث أن يصرعه الموت في قلب السيل، بعيداً عن أبيه وزوجه وبناته، وبعيداً عن أولئك الناجين على يديه، الذين ربما وقفوا يرقبونه وينتظرون عودته ليشكروه.. أي شكر يفي هذا الإنسان حقه يا ترى..؟

إن جُدة مدينة حضارية حية على مدى تاريخها الطويل، وقد ظلت كريمة مع الكرماء من أبنائها ومن غير أبنائها، وتاريخها المجيد حافل بأسماء لامعة في المال والاقتصاد والتجارة والثقافة وغيرها، ومَنْ يتمعن في أسماء ميادينها وشوارعها - وهي بالآلاف - يجدها تحتفي بالكثير من هذه الأسماء الكبيرة؛ فهي بذاكرة جيدة على مر التاريخ؛ ولهذا.. لم تنس (أمنا حواء)، ولم تنس (الخواجة يني)، ذلك الإيطالي الذي اختارها من بين مدن العالم كافة، فعاش فيها، وفتح فيها أول (سوبر ماركت) تعرفها جدة، ثم مات ودفن فيها.

أعتقد أن على جُدة التي نحبها، وهي تلملم جراحها اليوم، وتبحث عن مخرج من مآزقها الخانقة، أن تفكر بجدية، كيف تحافظ على صيغة التكافل التي تولدت عن الكارثة، وكيف تكافئ الأبطال من أبنائها، سواء الخمسة آلاف شاب وشابة، الذين شرفوا جدة، وعكسوا الثقافة الإنسانية الحقة للمجتمع الجداوي، أو.. ذلكم الشهم الشجاع، صاحب البطولة البارزة في سيل الربوع، الشهيد (فرمان خان)، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

إنَّ مما يزيد جُدة بهاء وإنسانية احتفاءها باسم الشهيد (فرمان خان)، وأن تخلد هذا الاسم الفدائي على أحد شوارعها الكبيرة، وأن تكرم والده وزوجته، وأن تخصص رعاية اجتماعية وتعليمية لبناته الثلاث في المملكة أو في بلده باكستان.. هل هذا كثير على جدة وأهلها..؟ وهل هو كثير في حق الشهيد وأسرته التي نكبت بفقده..؟

إذا زرتم جدة في مقبل الأيام فاسألوا وابحثوا عن شارع الشهيد (فرمان خان)؛ لكي تترحموا على الشهيد، ولكي تعرفوا أن جُدة لا تنسى الذين يمرون عليها من العظماء، فكيف تنسى من ضحى من أجلها، ودفع حياته ثمناً لحياة أبنائها.

إن (فرمان خان) عظيم في شجاعته، وفي بطولته وبسالته وفدائيته.



assahm3@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد