المأساة التي وقعت في عروس البحر الأحمر ليست الأولى ولن تكون الأخيرة فيها ولا في العالم، أذكر أنه قبل حوالي أربعين سنة جاءتنا أمطار غير معهودة في شمال زهران، سميت أمطار الاثنين، وأصبح الناس يؤرخون بها،
جرفت المزارع وجعلت بعض الأودية قاعاً صفصفاً، وتلك المزارع بنيت منذ مئات السنين على شكل مدرجات في بطون الأودية والشعاب، وعاش على تلك المزارع أجيال وأجيال، ولكن عندما (زاد الماء على الدقيق) كما يقول المثل، جرفت الأمطار تلك المزارع، وسحبت تربتها وأشجارها عشرات الكيلو مترات، ولكن رغم تلك الأمطار وتجاوزها لجميع المقاييس المعهودة في المنطقة، لم يمت ولا شخص واحد من جرائها، لأن الفطرة لا بد أن تجد طريقها حتى عند الإنسان البسيط الذي لم يدرس الهندسة ولا فنون التخطيط، فالمساكن والقرى بنيت في أعالي الجبال، لأهداف كثيرة منها إبعادها عن مجاري السيول، وإمكانية الدفاع عنها ضد أي هجوم، ورغم ضعف إمكانيات المواطنين في تلك الفترة، وضعف إمكانات الدولة آنذاك وعدم مد يد المساعدة لهم، فإن السكان استطاعوا إعادة بناء تلك المزارع، مستخدمين العمل الجماعي، ومساعدة بعضهم بعضاً في بناء الجدران الارتدادية، ومستخدمين الجيل الأول من المعدات والآليات، مثل الجراف ذي الحبل الحديدي (الواير الذي يرفع السكين، وينزلها)، وعادت المزارع كما كانت بل أكبر مما كانت عليه، ومأساة جدة يمكن أن نجد جزءاً من تفسيرها في سوء التخطيط، وبناء المساكن في طرق السيول، وقد نجد جزءاً من التفسير في سوء التنفيذ للمشروعات، وأن مقاولات الباطن المتعاقبة، وأخذ أرباح ممن يرسو عليه المشروع ولا يقوم بالتنفيذ كما ينبغي وخاصة عندما ترسو المشروعات بأقل الأسعار، وتصبح الفائدة منها قليلة وشبه معدومة فيضطر المقاول المنفذ للغش حتى يكسب بعض المال، وهذه الطريقة يجب معالجتها بمنع مقاولات الباطن مثلاً، أو بمنع تجاوزها لأكثر من خطوة واحدة على الأقل وهكذا.
ومما يلفت النظر في كثير من مشروعاتنا أنها مؤقتة، أو شبه مؤقتة، وكأننا راحلون عن هذه البلاد إلى غيرها في المستقبل القريب، وعندما ننظر لبعض الدول نجد أن بعض مشروعاتها قائمة لها مئات السنين وتؤدي دورها بكفاءة وفاعلية، وتتم صيانتها والمحافظة عليها بصفة دورية، ولعل ما يمكن أن نستفيده من مأساة جدة أن نعيد حساباتنا، وأن نعلم أن مصلحة الوطن فوق مصلحة الفرد، وأن مشروعاتنا سوف تستفيد منها الأجيال القادمة، وأنا ننفذها على أفضل وأعلى المستويات، فنحن نملك الإمكانات اليوم وقد لا نملكها غداً، ويجب مراقبة الله في كل شؤون حياتنا، والعمل عل تصحيح الأخطاء، وتجنبها في قابل الأيام، إن مأساة جدة يمكن أن تتكرر في كثير من مدننا لتشابه الأوضاع فيها، وأخيراً وليس آخراً، لا راد لقضاء الله، والكوارث تصيب جميع الدول فقيرها وغنيها، متقدمها ومتأخرها، فلم تنج أمريكا من إعصار كاترينا، ولا من بركان ماونت سانت هيلين، ولم تنج روسيا من كارثة تشرنوبل، ولكن الفرق في كيفية التعامل مع تلك الكوارث، وكيفية الاستفادة من الأخطاء، ويعتبر أمر الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله ووفقه وأعانه وجميع المسؤولين، بتكوين لجنة للتحقيق في أسباب الكارثة من القرارات التاريخية، وأعتقد أن على اللجنة استخلاص العبر، وأخذ الدروس من الكارثة والعمل على تفادي تكرارها في جدة وفي غيرها من مدن المملكة، وهذا يعتبر من المنح التي يرسلها الله في ثنايا المحن، كما يجب العمل على إنهاء الخطر الذي يهدد مدينة جدة على الدوام المتمثل فيما يسمى بحيرة (المسك)، وايجاد حلول جذرية لها، ويمكن الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا الشأن، ومن المفيد أن تشكل اللجنة العليا ضمن لجانها لجنة فرعية مهمتها متابعة ما كتب ويكتب عن هذه المأساة وجمع المعلومات والأفكار المطروحة فيها وتبويبها وتصنيفها، وتقديم خلاصاتها إلى اللجنة للاستفادة منها وتفعيلها، فما أكثر ما كتب، وما أكثر ما سيكتب عن هذا الموضوع من جوانبه الاجتماعية والنفسية، والاقتصادية والبيئية وغيرها من جوانب الحياة، والله من وراء كل شيء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
zahrani111@yahoo.com