يعيش المثقف العربي الراهن في أزمة فحواها أنه لا يجد تجاوباً حقيقياً من الأطراف الأخرى في المجتمع، فالسلطة تحاول قدر الإمكان التقليل من حقيقة ما يذهب إليه في أطروحاته الثقافية، والتي يحاول من خلالها قراءة الحاضر والمستقبل ونقد الواقع، والمجتمع كذلك لا يلتفت كثيراً إلى ما يحاول الكاتب التعبير عنه. ويعزو الفرد ذلك العزوف إلى اهتماماته التي لا تنتهي في سعيه من أجل الكفاف في العيش، وهو ما يجعل تأثير الثقافة على المجتمع أقل بكثير من الوعظ الديني على سبيل المثال ومن إعلام الترفيه الذي أخذ حيزاً كبيراً من حياة الإنسان في العصر الحديث..
تتصف علاقة السلطة بالمثقف بالارتياب وعدم الطمأنينة، فهي تدرك أن الثقافة ذاكرة السلطة وأوراق دفاترها القديمة، وضميرها الحاضر الغائب، والذي تعمل الثقافة من أجل أن يكون في حالة يقظة دائمة، وهو ما يجعل من تلك العلاقة غير مستقرة، وأحياناً قد تصل إلى القطيعة مثلما عبّر عنها النازي غوبلز بمقولته الشهيرة، (كلما سمعت كلمة مثقف أتحسس مسدسي)..
كانت الإشكالية الأبرز في تاريخ الثقافة عند العرب تدور حول هوية المثقف، وإلى أي مدرسة ينتمي، ولم تقبل في العهود الأولى سلطة الدين وفقهاؤه دخول المثقف إلى ميدان التأثير على المجتمع. لكن التحولات الفكرية في العالم جعلت من المثقف ذلك الإنسان الذي يعبر عن نبض المجتمع، ويرصد الحقيقة في الجزئيات وفي تفاصيل الحياة اليومية، ويفكر من أجل اختزال الأحداث العظيمة في قراءات نقدية مختصرة، كما يجيد التعبير عن قضاياه من دون صفة الانتماء الأعمى، وهو ما جعل من مواقفه عرضة للتخوين والتكفير والاتهام بالزندقة أو الهرطقة. وقد كان تاريخ العباسيين حافلاً بالاتهامات بالزندقة، وذلك من أجل إسكات صوت الكلمة الحرة، وقد أتهم بعض العلماء كالغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) المثقفين بالزندقة، ويظهر ذلك في مقولته الشهيرة (من تمنطق فقد تزندق)...، وهي جملة إقصائية يبعد من خلالها من يفكر خارج نهجه الديني..
قد يهرب بعضهم من أوطانهم كما حدث عندما تصادمت النازية والفاشية مع الثقافة، وأيضاً في الحالة العربية حدثت مواجهات ومصادمات بين السلطة والثقافة، وكان ذلك حاضراً في تجربة الناصرية والبعث العربي والأصولية الإسلامية..، وما زال المثقف العربي يعيش في قلق وخوف على حياته، فالعرب لم يعترفوا إلى الآن بضرورة حق التعبير للإنسان العربي، وما زال يقع تحت طائلة المطادرة والمنع من دخول الأوطان..
تتميز الثقافة بسعة أفقها وبتعدد أشكال تعبيرها، لكنها تمثل في مضمونها همس المجتمع، وآهات أولئك الذين يمشون في الردهات الخلفية، البعيدة عن أنظار السلطة. لكن هناك من المثقفين من لديه القدرة على التكيف مع السلطة، ويحاول قدر الإمكان استخدام الكلمات الموزونة. وقد يصل المثقف أحياناً إلى الجبن، والرضوخ إلى الأمر الواقع أو الهروب من هوية المثقف إلى مسخ ثقافي مشوه، كما يعمل بعضهم من أجل اختصار المسافة، وينضمون إلى السلطة منذ البادية، ويطوعون أنفسهم لخدمتها، ومحاولة إصلاحها من الداخل. وقد يصبح بعضهم في صف الوزراء والتنفيذيين وغيرهما من المناصب الحكومية، لكن المفارقة أن بعضهم قد يُصاب بداء السلطة، لتدخل المصلحة الشخصية في مقدمة أغراضه الثقافية، وتحدث الكارثة.
خلاصة القول أن الثقافة تمثل نخبة الفكر الإنساني، ولا يمكن مأسستها داخل أطر إدارية أو جمعيات رسمية، ولا يوجد حل للمصالحة معها إلا من خلال إعطائها حريتها في ظل قانون يحكم مختلف أطياف المجتمع وأنشطته الفكرية، والأهم من ذلك الاستجابة إلى نبضها المتسارع والمنتظم..