تذهب الحكمة السيكولوجية إلى أن الكذب ذكاء وفن، وهو كذلك إذا تصدينا للتدخل الأخلاقي الذي لا يشكل علمياً وفلسفياً إلاّ مجالاً ضيقاً ليس في حسبان صخب العلوم التجريبية أفضى إلى وصفه (الكذب) بالجمالية التي أنجزت الشعر والخيال العلمي وربما الموسيقى، فعند استعراض حِكَم المفكرين والفلاسفة ذات الصلة بالحالة الموسيقية تنهض أمامك أسئلة عميقة ومشاغبة بل وصارمة مثقلة بعلاقة الموسيقى بالفن والذكاء وعلاقتها الوطيدة بالكذب كمنتج جمالي بحت.
قلّة من الموسيقيين عرضوا لهذه العلاقة على نحوٍ مبطن حسب استعراضي لعشرات الآراء التي ترجمها أمين صالح في مجلة نزوى، ولكنها تتجه مع حكم الفلاسفة إلى أن المناخ الموسيقي يمنح المتذوق واقعاً جديداً حالماً وممتعاً وكلها تتحرك ضمن المنظومة الشعورية وتأخذ حيويتها من العاطفة الإنسانية التلقائية.
ولعلي افتتح محاكمة النغمة الكاذبة بتأكيد أرسطو على أنه (ليس من السهل تحديد طبيعة الموسيقى ولم يتعين على أي شخص أن يمتلك المعرفة بشأنها) ومدعوماً برأي أفلاطون في جمهوريته الفاضلة إذ ذهب إلى أن الموسيقى تهذب وتفسد. وفي النهاية فالتهذيب والإفساد لا يكونان إلاّ بعد صدق وكذب.
أعود إلى النغمة بوصفها صوتاً يخدش الفراغ ويحمل مؤشراً غير مألوف متآلف، وبالتالي فهو طارئ تتلقاه بشيرا أو نذيرا، ومن ثم فهو ينطوي على قيمة تأثيرية لا تُتَخّيل إلا باحتوائها على بعد خبري، أي معلومة بشيرة أو نذيرة، فالانفجار والزغرودة صوتان يشيان بخبرين نذير وبشير، وكذلك القرع على الباب وصافرة الحكم وأنين المريض وما تختزله من مخزون إشاري لا يخرج عن الصفة الخبرية أو التبليغية.
والموسيقى هي إشارة يرسلها إنسان إلى إنسان عن طريق الجماد ومعظم إلماحات الفلاسفة بشأن خامة الموسيقى تشير إلى هذا البعد الخفي وإن ضمناً.
فما الطبيعة الكلامية للموسيقى؟ والإجابة لن تتجاوز حكمة أرسطو بنفيه معرفة طبيعة الموسيقى، وعليه فالطبيعة الكلامية هي الأخرى عصية على التصنيف ولا أدل على هذا من التباين الحاد لدى المتذوقة في قبول طبيعة موسيقية ورفض أخرى، ولكن الحالة واحدة في تلقي الموسيقى كتنبيه وإملاء وتلقين للحس والعقل معاً، ومن ثم فإن الميل للموسيقى هو ميل لكسر رتابة التلقي وإضافة مادة جديدة للذاكرة، وربما لإحداث نمط جديد في علاقة موجودات الذاكرة يميل إلى مزيد من التوتر أو الانسجام إذا ما انسجمنا مع مقولة (جون كيج) إن (التنافر هو ببساطة تناغم لم يتعود عليه الكثيرون) و(هيراقليطس) إن (التناغم الأكثر صفاء ينبع من التنافر) وقول (هوراس): (التناسق في التنافر) و(كلود دييوسي): (التنافرات وليمة الأذن).... ألخ؛ مما يؤكد أن الموسيقى تجدد في وضعية مخزون الذاكرة فقط في الحالة المثالية الرومانسية وتعود الأمور إلى حالها بعد الفراغ من الاستماع، وهذا برهان جديد على الطبيعة الكلامية الإخبارية للموسيقى فلو كانت على العكس لما حدث هذا التناسق في التنافر والتدخل مع موجودات الذاكرة التي لم تتبوأ مكانها فيها إلاّ بوصفها معلومات بحتة، ويلخص الفيلسوف رينيه ديكارات ما أذهب إليه حيث يلح على البعد العلمي المعلوماتي للموسيقى: (موسيقى القدماء كانت محرّكة للمشاعر أكثر من موسيقانا ليس لأنهم كانوا أكثر علماً بل لأنهم كانوا أقل علماً). فيا ترى أي علاقة للموسيقى ومؤثراتها بالمتلقي العالم والجاهل إن لم تكن مادةً علمية تضيف للذاكرة معلومات جديدة.
وإذا كان القدماء جهلة فما العلم أو المعلومة التي قدمتها الموسيقى لهم عبر تحريك مشاعرهم وما مصدر هذه المعلومات إذا ما علمنا أن الموسيقى صنعت من جمادات فهل يدرك الجماد ما لا يدركه الإنسان وهل سيصدق هذا الجماد ولا سيما أن قائل الحكمة الآنفة هو رائد منهج الشك؟... إذاً فمن حق المتذوق أن يشك في المحمول العلمي المختزل في الخامة الموسيقية ولا سيما إذا كان سيسبب خللاً فادحاً في علاقة الإنسان بمستقبله.. يقول فيلسوف: (تأليف الموسيقى أشبه بممارسة الحب مع المستقبل) وآخر: (الموسيقى تجعل الناس يشتاقون إلى شيء لم يملكوه ولن يملكوه أبداً)، بل ويبلغ تحايل الجماد (الموسيقى) على الشعور أن أوسكار وايلِ يشعر بأنه بعد الاستماع إلى الموسيقي شوبان كما لو أنني انتحب بسبب خطايا لم يرتكبها أبداً.
والأمر في الخبر الموسيقي مختلف، إذ إن المتذوق متحفز لتلقي الخبر لا لسماعه ثم تصديقه بل لتصديقه أثناء سماعه، شأنه شأن فن القصة والرواية بل أشد منها، فأنت في التلقي الموسيقي تشارك في الكتابة الخبرية بتحريض اللاوعي. وفي هذا السياق تحضرني مقولة موفقة للإمام ابن تيمية تتجه إلى أن قبول الذوق لنغمة دون أخرى محكوم بالذاكرة وليس الحس؛ لأن المشاعر واحدة والذاكرات مختلفة باختلاف تجارب الإنسان.
ولكنها من طبيعتها التعامل مع الحس من خلال اللذة ما يضيف هامشاً من ثقافة اللذة في العقل.
وقبول العقل لثقافة اللذة محكوم برغبة خفية بالقبول نفسه أو الرفض، ففراتز يرى أن (الموسيقي لا تكذب على المشاعر) إذاً هي صادقة وأخلاقية في حين يرى برنارد شو أنها (تعبر عن أية عاطفة دنيئة أو نبيلة.إنها غير أخلاقية تماماً) والاختلاف بينهما الأدل على أنها خادعة؛ لأن المشاعر لا يناط بها تكذيب بل تأثر وفتور واستقبال وحسب فضلاً عن أن اقتنائي للموسيقى، واستماعي المتكرر لها دليل على وجود علاقة مصداقية واستمتاع بما أسمع من مؤثر، ولو كنت أستشعر بها كذبها عليّ لما واصلت علاقتي بالخرافة وأنا المتذوق العقلاني، فعندما يصف أحدهم أن الموسيقي تمنح المخيلة قدرة على التحليق والعقل أجنحة وكل ما هو خرافي، فهو ليس كذلك أثناء الحالة الحالمة فتحدث ازدواجية الصدق والكذب، فالإيمان بالمعلومة الموسيقية ذو ثبات صدقي لا يبتره إلاّ الانتباهة من الحالة الموسيقية ليتدارك المتذوق أنه كان يعيش صدقاً توقف ولم ينتهِ وسيستأنفه فور إدارة جهاز التسجيل .... فهل هو استمتاع بالخدعة والكذب... ربما نعم إذا ما تذكرنا أن الكذب فن وجمال وإبداع ولذّة لأن الموسيقي حالة أخلاقية تفرض درسها القيمي وتصنف سلمها الأخلاقي بعيداً عن الواقع الذي يحاول أن يجردها من غموضها فيقتلها.
انتهي إلى أن الموسيقي لها صدقها الخاص وكذبها الخاص، غير أنها لا تدرك أن كذبها لا يتجاوز التعريف الإنساني التقليدي للكذب وبصرف النظر عن إبداعه وفنيته، فعندما يقول أحدهم: عندما أسمع موسيقى تمتلىء عزلتي بالبشر والأشياء.
وهذا متصادم مع الممكن العقلي المنتج للإنسان. والإيغال في هذه الطقوس معطل للإنتاج الطبيعي القائم على أن الممكن هو ما هو كائن يؤدي دوره الفاعل في خدمة الإنسان حتى لو قال فيلسوف: ان الموسيقى تصلح من سلوك الإنسان، والحق أن القصص الأخلاقية الموغلة في الكذب تفعل فعلها البالغ في إصلاح السلوك... إن الإنسان بكل كبريائه يبقى على الحياد إزاء طبيعة المعلومات التي تبثها الموسيقى، ولكن حين يدرك أنها من جمادات تأخذه العزة بعقله وعقلانيته ليدرج الموسيقى في خانة الخرافيات التي صنعها بيده ثم انتظرها لتعدل سلوكه وترسم له منهج الحياة.
لمزيد من الإطلاع على منقولات الفلاسفة في الموسيقى. انظر مجلة نزوى العدد 55.
Hm32@hotmail.com