Al Jazirah NewsPaper Thursday  17/12/2009 G Issue 13594
الخميس 30 ذو الحجة 1430   العدد  13594
نشاط المراجعات العلمية
أحمد علي آل مريع

 

أعتقد أنه بات من الأهمية بمكان أن نعمل على إحياء نشاط المراجعات العلمية الرزينة داخل المؤسسة الشرعية نفسها وبرعايتها، وبإشراف رموزها ومشاركتهم، أو خارجها من قبل الفقهاء والباحثين الشرعيين، وذلك بصورة مستمرة وشاملة لأفكار الرواد، وللطروحات التأصيلية، وللآراء والفتاوى والبحوث المنشورة، في المجالات المعرفية، والعلوم الشرعية والإنسانية بعامّة، وما يمس حياة الناس بخاصة ومعايشهم، سواء أكان ذلك من قبل آخرين يتتبعون المسائل ويوجهون النظر ويحققون الأحكام أم كان من قبل الأشخاص أنفسهم حين يظهر لهم العدول عن قول سابق؛ لكونه قولاً مرجوحًا أو لكونه خطأ إلى ما يعتقد رجحانه أو صوابه؛ إذ ينبغي أن يكون الحق هو مطلوب الجميع، وليس الانتصار للرأي أو الأشخاص، ورحم الله عمر بن الخطاب حين نبه إلى هذا في كتابه إلى أبي موسى الأشعري؛ إذ قال فيه: (ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهُديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) (1)، وجعله - رضي الله عنه - من سنته متى ظهر له الحق؛ فإنه يعدل إليه، ولا يلزم نفسه بما كان قاله أو قضى به فيما سلف. وأذاع ذلك - عن نفسه - في قولته المشهورة الصالحة، حين أنكر عليه بعض الناس قضاءً قضاه لقضاء سابق كان رآه أو حكم به؛ إذ قال: (ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي) (2)، وقد فعل ذلك الفقهاء المعتبرون الأوائل وأئمة المذاهب؛ إذ جاء لهم القولان والثلاثة في المسألة الواحدة، قال السمعاني: (والمجتهد قد يجتهد في وقت؛ فيؤدي اجتهاده إلى شيء، ثم يجتهد في وقت آخر فيؤدي اجتهاده إلى خلافه، إلا أن الثاني يكون رجوعاً عن الأول، ويكون الذي استقر عليه قول المجتهد هو الثاني) (3).

من أولويات المراجعات العلمية، مراجعة آليات الفتوى نفسها، وذلك لا يتحقق إلا من خلال تعزيز عمل المجامع الفقهية والمراكز البحثية في حياة الناس اليومية، والدفع باتجاه إحلال ثقافة البحث والنظر الفقهي المبني على الدراسة والاستقصاء والاجتهاد الجماعي، مكان ثقافة الفتوى الفردية والنظر الآني...

على أن ذلك ينبغي أن يكون في سياق من المكاشفة وتبصير الناس بالفرق بين: الرأي ووجهة النظر، والفتوى الشرعية المحققة بالنصوص (4)، وبين: الفتوى الخاصة بمعيَّن، والفتوى العامة، وبين فتوى الاجتهاد مع وجود المجتهدين المخالفين أو المجتهد المخالف، والفتوى المبنيَّة على الإجماع المنضبط، وبين الفتوى لأهل مكان ومجتمع غير مكانه ومجتمعه، والتفريق بين نظر الضرورة وعملها، ونظر الرخصة وعملها، وبين نظر السعة وعملها، ونظر العزيمة وعملها، ونظر الفرد ونظر الجماعة.

وفي اعتقادي أنه ينبغي للمراجعات العلمية أن تميل إلى تجاوز الفهوم الجزئية للنصوص، وتسعى إلى تعزيز حضور الرؤية المقاصدية المحقّقة للشريعة الإسلامية، التي تستجيب لجزئيات النصوص في إطار كلياتها وأفرادها ضمن مجموعها، داخل المؤسسة الدينية وخارجها؛ سواء أكان ذلك في:

- الممارسات الفقهية التنظيرية ك(الدّراسات التأصيليّة للعلوم، والبحوث الشرعية، والاجتهاد، والفتوى)،

- أم في تطبيقاتها المتعددة؛ في مجالات: (الحسبة، والدّعوة، والوعظ والإرشاد، والتربية والتعليم، والدراسات الأكاديمية، والإعلام، والترفيه)؛ للخروج من مآزق الفهم الجزئي للنصوص إلى رحابة الفهم الشمولي ومحاسن الشريعة المطهّرة، وتحقيق التواؤم والانسجام بين ما تقتضيه ظروف المرحلة التاريخية ومتطلبات الواقع الحضاري المعقد للمجتمعات المسلمة، وبين الوعي الفقهي الرائد والراشد بهما..

*****

( ) راجع: سنن الدارقطني: 4-206-207، وإعجاز القرآن للباقلاني: 141.

(3) راجع: المصنف في الأحاديث والآثار، لابن أبي شيبة: 6/247، برقم: 31097.

(3) قواطع الأدلة في الأصول: 2-327 (تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، ت 1418هـ - 1997م).

(4) قال حماد بن زيد حدثنا النعمان بن راشد قال: (كان الإمام الزهري ربما أملى عليّ؛ حتى إذا جاء الرأي وقفته عليه فأكتبه؛ فيقول: اكتب إنه رأي ابن شهاب (يعني نفسه)، وإنه لعلك أن يبلغك الشيء؛ فيقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر! فليعلم أنه رأيي) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الظاهري: ج 6 - 257.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد