يتردد القول كثيراً في أن الإقبال على الصحف لا يزال جيداً مقارنة بالكتاب الذي يتراجع مع الزمن وتتقادم همومه، والأداة التي تزن هذه المعادلة على الدوم هي القراءة، فهل يستقيم القول بها على عموم مفهومها ومطلقية مصطلحها؟ أي هل في الاعتبار المسبق بأننا شعب غير قارئ فهم كاف ومنصف لضعف حضور الكتاب كأساس للعجز الثقافي في مجتمعنا أمام كل هذه المطالعات للصحف وكل هذا التصفح للإنترنت، وبماذا يسمح من تفسير هذا الإقبال العالي على المقالات اليومية بافتراض تسبيبها إقبال الناس على الصحف حيث توافر الخبر كأساس العمل الصحفي في غيره من الوسائل الإعلامية وبصور مباشرة؟ وبوجه آخر بماذا تتفرد الصحف عن غيرها من وسائل الإعلام، الخبر أو الصورة أو التحليل، أو المقابلة أم المقال؟ وإن كان جلياً أنه المقال فأي مواضيعه أشد إغراء للقارئ وأيها أقرب لخاطره وتكوينه النفسي، هل تشكل المقالات الاجتماعية صورة صغرى عن الرواية من حيث عدسة التفاصيل اليومية والشؤون المعيشية، أو هل تعكس المقالات الثقافية إن صحت العنونة بهذا المسمى أو النشر الثقافي عموماً في الصحف صورة الشعر الحديث وإغراقه في الأنا الانعزالية والشاعرية بوصفها مركزية متعالية عاجزة عن مسايرة روتين الحياة (السريع)، وهل تبقى القراءة النفسية عن الشعراء حيث الإحساس بالدور الازدواجي (النبي المكذب) هي ذات القراءة التي يخرج بها القارئ من تشخيصه المقال الثقافي، فإن كان فكم تقدمنا عن قول الغذامي في كتاب النقد الثقافي إن كان من تقدم، هل نقل المثقف الذات بعجزها النفسي عن التفاعل الاجتماعي مرة أخرى لتحول بينه وبين القارئ، والأهم والأجدى من هذه الأسئلة هو إعادة الاعتراف بأن فعل القراءة ليس بذاته سبباً وحيداً لأن أدوات المطالعة للصحف وتصفح الإنترنت قد نجحت وتجد إقبالاً مرتفعاً جداً وهي بالناتج قراءة أيضاً، وإن لم تكن فليست هي كأدوات مجردة ما قد نجح إنما ما تناولته من مجالات الواقع والمعايشة اليومية كموضوع ولو أغرقت فيه حد السلبية النقدية أو السخرية المغلقة.
إن الصحف في مواقعها الإلكترونية ترصد أعداداً من التعليقات على الكاتب الواحد بما يفوق الأربعين تعليقاً على المقال الواحد له، فإن كان كاتب صاحب زاوية يومية سيكون تفاعل القراء معه أثناء الشهر ما يفوق بيع مئات النسخ من الطبعة الأولى لمُؤلف ثقافي، ما قد يعني أنه على مدار العام سيفوق آلاف النسخ، كما وإن كان التفاعل مع المقالات ليس تعليقاً خالصاً عليها قدر ما هو متنفساً للقارئ يتحقق له من خلاله وسط مشترك يقوم على موضوع محدد ونشاط تفاعلي ينتج فيه كفاعل حقيقي، فهو لا يعني أن ليست قيمة المقال هي الهدف المشتغل عليه في هذه المعرفية السريعة والبسيطة لأن المقال بمجرد تكوينه لهذا الوسط ولو على شكله المؤقت وبشكل من أشكال الجمهرة يكون قد أدى جزءاً رئيساً بمهمته المعرفية نحو المجتمع إذا حقق لأفراده الشعور بالقيمة الذاتية بكونه فاعلاً ومنتجاً، والهم الاجتماعي بمباشرته ووضوح شؤونه قد يكون سبباً في نجاح المقال مقابل الإنتاج الثقافي عموماً، ولكن الهم الثقافي بإدراكه الأعمق وفهمه الأوسع للتعقيد المعرفي عليه أن يكتشف خلله ليعرف أن الإحجام عن القراءة ليس علة صحيحة قدر ما هي نتيجة أخذت مبرراً للعجز ولزمن طال، كما أن الكتاب لم يعد كساده باعتباره الإنتاج الثقافي الأهم كساداً من خارجه بل من داخله ومن منطلقه المعرفي، وإلا لما ذهب كتاب المقال إلى التأليف في خطوة تدلل على ثقة بالكسب في إنتاج ليس هو إنتاجهم بالدرجة الأولى. ولعله من المعقول أيضاً الكشف عن المقال الرياضي كمادة رائجة وذات إقبال قد يعد الأعلى قياساً بغيره رغم أن كرة القدم تجد نقلاً مباشراً لأحداثها وتغطيات تلفزيونية واستديوهات تحليلية وقنوات مخصصة بل ومشفرة وباشتراكات مالية تعادل قيمة ثلاثين كتاباً. ومن هذا فإن ضعف الكتاب ليس مشكلة قراءة بل أزمة موضوع، وإلا أين يجد المقال الثقافي موقعه من هذا المدرج، ولماذا صارت الثقافة هي العامل المشترك لكساد كل منتج سواء كان مادة بثقل كتاب أو كان ورقة وحيدة منشورة في جريدة أو كان برنامجاً تلفزيونيا بمؤثري الصوت والصورة.
وإن لم تكن الثقافة هي الصفة فهل يكون المثقف هو الموصوف الذي يقبل القسمة على الكساد، وهل هو كساد ناتج عن هويته الوجودية كفاعل ثقافي أم هو نتيجة لتكوينه السيكولوجي وسمات شخصية، أو أن معرفيته بأنظمة تفكير مغلقة ببداهات عاجزة ومسلمات مشروطة ومعلقة هي السبب؟ الكثير مما سبق يجب مراجعته والكثير لم يطرح بعد، والمؤكد أن التسليم بأي قراءة مهما كان تؤولها للواقع وتشخيصها له هي قراءة قاصرة إن لم تقبل المراجعة أو لم تحتمل التقدم، والإنتاج الثقافي والمثقف كل من الموصوف والصفة تحت البحث.
Lamia.swm@gmail.com