منذ عام ونصف، تقريباً، ناولني الأديب الصديق عبد الرحيم الأحمدي (صاحب دار المفردات) عدداً من الإصدارات الخارجة للتو من المطبعة.. فأخبرته أن الإبداعات الأدبية ليست في مزاج قراءاتي حالياً (!).. غير أنّ تصاميم الكتب وأغلفتها تغري بالتصفح الأوليّ، فمررتُ بشكل ظننته سريعاً على كل كتاب، ولكن.. توقفتُ قليلاً عند مجموعة قصصية عنوانها (عذراء نورانية) لمؤلفة لم أكن لمحتُ اسمها من قبل: نوال الجبر..
في اللقاء التالي مع الأستاذ الأحمدي، بادرته بصوت مرتفع: من تكون نوال الجبر؟ وقبل أن يجيب أضفتُ: هذه الكاتبة تمتلكُ جنوناً إبداعياً يؤهلها أن تكتب شعراً أو رواياتٍ أو قصصاً - طويلة كانت أو قصيرة - ببناء متفرّد بأسلوبه ومتميّز بتركيب السياقات وربط كلّ جملة بما بعدَ بعدِها حتى آخر نقطة دون أن تفلت من القارئ أو تتراخى في شدّه إليها..!
سألني: كيف؟!
فاجتزأتُ سطرين من قصة في المجموعة بعنوان (الأصفر) لأضرب له مثلاً:
(تزحف المدينة.. تزحف.. نحو النقاء، وتجرّ خلف أذيالها مدناً أخرى من التلوث.. تبقى بضع أكسوجينات هاربة دوماً على أطراف المدينة، والأصفر ينفث دخانه في زوايا المعمورة، ويغمر فضاءها المسقوف محوّلاً كلّ أبيض إلى أصفر.. المطر أصفر.. الشمس صفراء.. والأصفر، تضاعف حجمه كثيراً فأصبح مخيفاً)..
هذه التقنية في ربط الكلمات وتوسيع الأبعاد، كأن تصف الشمس والمطر بالبياض أساساً قبل تحولهما إلى أصفر مخيف.. و (الفضاء المسقوف) وغيرها، عبارات مجازية وتركيبات لغوية حسبتُ أنها لا تصدر إلاّ عن متمرّسٍ في الأدب منذ زمن ليس قصيراً أبداً، ولكنني فوجئتُ بالناشر يخبرني أن المؤلفة شابة سعودية لا تزال على مقاعد الدراسة الجامعية!
أقول بصدق ووضوح: أديبة في مطلع العشرينات من عمرها، ولا تزال طالبة في الجامعة، حين تكتبُ مجموعة قصصية - إبداعية ك(عذراء نورانية) يجب أن تجد في ساحتنا الثقافية من الأصداء ما يشكّل دعماً وتشجيعاً تستحقه عن جدارة، حتى لا تتسلّى عن التجديد والتطوّر ومواصلة الإبداع بإبداع.. ولقد تأخرتُ -شخصياً- في تقديم هذه الشهادة (أو الإشادة) ليقيني بأنّ ثمة من هم أقدر مني على المقاربة والنقد سيجدون في هذه المجموعة ما يغريهم بدراستها وإظهار جوانب كثيرة من جمالياتها.. وقد استمتعتُ حقاً بمقاربة الأديب الصديق عبد الحفيظ الشمري، في (الجزيرة الثقافية) بتاريخ 3-11-2008 وأوافقه احتمالاً حين قال: (ليت القاصة نوال الجبر قدمت هذه الإضمامة السردية على هيئة رواية لأنها تمتلك مقومات السرد المفتوح على مفاتن مدهشة في خطاب الأنثى، ولأن لدى (نوال) حساً مميزاً في الإدلاء بشهادتها على عصر يريد أن يجعل منها صورة للعروس التي يقودها زوجها في أول ليلة في الزفاف إلى كهوف الماضي (هذه أمي) كما في القصة الأولى (أمشاط الضوء)..).
عبد الحفيظ الشمري أديب وقاص وروائي قبل أن يكون ناقداًورأيه ينبع من ذاتٍ مبدعة متابعة لكلّ جديد في المشهد الأدبي - محلياً وعربياً، فكان وفياً في الإضاءة على مكامن الإبداع في هذه المجموعة، ولكني -في جزئية تمنيه لو قُدّمتْ على هيئة رواية- أحسبُ أن المؤلفة لم تشأ أن تكون مواكبة (أو تابعة) للمشهد المكرّس للأعمال الروائية -بخاصة في العام 2008- بل أرادت أن تطرح تجربتها الأولى بالشكل الذي اعتزمت له أن يختط طريقاً موازياً للتيار دون الاندماج فيه.. ليس لمجرد الاختلاف، إنما لإثبات الحضور المتفرّد، ولكي نكون متأملين ومتفائلين بجديدها القادم، ونحن على ثقةٍ بأننا سنقرأ إبداعاً أدبياً من طراز رفيع يحقق الدهشة التي نتوقعها منه بأيّ شكل جاء..!
فطالما أن اهتمامات القاصة (نوال الجبر) بالقضايا المتناثرة من حولنا عميقٌ جداً، في كتابها الأول (عذراء نورانية) ولغتها عذبةٌ جداً.
وتمكُّنها ذهبَ بها حدّ التميّز.. فليس بمستبعدٍ أن يكون عملها القادم متجاوزاً ما قبله.. حتى لا نصاب بالخيبة التي اعتدنا أن نصاب بها بعد كلّ عمل ينجح (كعمل أوّل) لدى كثير من الأديبات والأدباء..!
f-a-akram@maktoob.