مي منسّى... أم حنون لكل الفنانين الجادّين في لبنان والوطن العربي، ترعاهم بعذوبة كلماتها، وتسقيهم من شهد قلمها، وتطريهم بأوصافها الشعرية التي... لطالما كانت أكثر موسيقية من الموصوف. لا أظنّ أنّ هناك فنّاناً جاداً لم يحلم أن يتذوّق من عسل مي منسّى، أو لم يتشوّق بفارغ الصبر أن (تُتشْتِش) له بعد أن يعرض عمله. ولكن... ألم يحِن الوقت لتلك الأم المُدلِّلة لأبنائها أن تشرع في توجيه أبنائها إلى جانب الدّلال؟
في مقال السيدة مي والتي تناولت فيه حفل الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية بقيادة المايسترو وليد غلميّة في كاتدرائيّة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في التاسع عشر من أيّار المنصرم، لوهلة حسبت السيّدة مي في صدد وصف أوركسترا برلين بقيادة المايسترو (كارايان)! لا نشك في عظمة الجهود المبذولة في الأوركسترا الوطنيّة اللبنانية، وجهود الأستاذ وليد غلميّة، وكل من معه، وهي أوركسترا استطاعت أن تجتاز الكثير في وقت زمني قياسي، ولكن... ومع ذلك هي أوركسترا مبتدئة، والعديد العديد من الملاحظات الفنّيّة والتقنيّة لا تزال تطرح نفسها بقوّة بعد كل حفل تقيمه الأوركسترا، فحفل التاسع عشر من أيّار والذي عُزف فيه كونشيرتو التشيللو لهايدن والذي عزف فيه على التشيللو الشاب المعجزة ساري خليفة، ساري عازف رائع ينتظره مستقبل عالمي باهر، ولكن... هذا لا يمنع كونه لم يزل مبتدئاً وقد ارتكب العديد من الأخطاء خلال عزفه للحركة الأولى من الكونشيرتو، وهو فنّان مرهف الحس، يدرك أخطاءه حين يرتكبها، ويظهر ذلك على وجهه في لحظتها، ولو أنّ السيّدة مي راقبت ملامحه أثناء العزف لأدركت على الفور لحظات (تنشيزه)، وفي المقابل لأدركت لحظات إبداعه في مقاطع عزفه المنفرد، وهذا للأسف شأنه شأن أغلب عازفينا، يتمرّنون بجدّيّة أكبر على مقاطع عزفهم المنفرد من تمرّنهم على المقاطع التي ترافقهم فيها الأوركسترا، كون هذه المقاطع المنفردة ترضي لهم غرورهم، وتحقّق لهم قدراً أكبر من الرضا عن الذات. ولكن... آليّة تفكيرهم هذه تقلّل من مدى احترافيّتهم واحترامهم لفنّهم، كما تؤثّر سلباً على جدّيّة الأوركسترا ككل.
ومع ذلك كلّه فإنّنا نحسد أنفسنا على هذه الأوركسترا الوطنيّّة بكل عازفيها، والتي هي وبكل فخر الأولى والأكثر جدّيّة والتزاماً بين أقرانها في كل المنطقة، ولكنّ تلك المكانة لم تعد تشبع طموحاتنا، وأحسب أنّها لا تشبع طموحات السيّدة مي، لذلك نتمّنّى من السّيّدة مي أن تُغنينا أكثر من خبرتها الواسعة، بتوجيهات أكثر و(عسل) أقل.