Al Jazirah NewsPaper Thursday  17/12/2009 G Issue 13594
الخميس 30 ذو الحجة 1430   العدد  13594
النقد الروائي العربي: أزمة الغياب وتساؤلات القطيعة
نورة القحطاني

 

أصبحت اتهامات القطيعة بين النقاد والرواية الشبابية قضية بارزة في المشهد النقدي العربي، لا تقتصر على بلد معين بل تنسحب على كثير من بلدان العالم العربي بنسب متفاوتة، اتسمت العلاقة فيها بين الرواية الشبابية والنقد بالتباعد والجفاف، أو الرفض والتحفظ، أو الأحكام المسبقة من دون فحص وتحليل، إلى غير ذلك من المواقف التي تكشف عنها آراء النقاد وتجارب الروائيين.

في هذا السياق سنقف هنا عند موقف النقاد من رواية الشباب لتحديد صلتهم بها أو انحيازهم إلى مجموعة على حساب الأخرى، في محاولة لاستجلاء أبعاد هذه الإشكالية، وكشف مواطن الخلل لتحقيق التفاعل المطلوب بين الفريقين كعامل أساسي من عوامل تطور المشهد الأدبي والنقدي.

وتعد قضية علاقة النقد بالإبداع الأدبي من القضايا القديمة المتجددة التي تشغل الأدباء في كل عصر، فمنذ عصر الجاهلية والإسلام والأدباء الشباب تلاحقهم تهمة التقليل من شأنهم وتهميشهم، ونقل لنا الأصمعي أنّ أبا عمرو بن العلاء لم يستشهد مرة واحدة ببيت شعر محدث، وواجه أبو تمام والمتنبي خصومةً شديدة تدور حول حداثة تجربتهم واختلافها، حتى أعلن ابن قتيبة سخطه على آراء النقاد في مقدمة كتابه الشعر والشعراء (رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله.. ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله.. فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له وأثنينا به عليه ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله أو حداثة سنه). ولعل في هذا دليل على استمرارية الجدل بين النقد والإبداع. والمتابع للمشهد الروائي العربي يلحظ أن كتابات الجيل الجديد من الشباب أصبحت ظاهرة لافتة للنظر، لأنها تعبر عن عمق الفجوة بين الإنتاج الكمي للرواية وقلة الدراسات النقدية المواكبة له، مما يطرح تساؤلات القطيعة بين روايات الشباب والنقاد الذين يتابعون منجز الرواية العربية، لمعرفة سر صمت النقد عن إبداع جيل اندفع لكتابة الرواية بوعي ومن دون وعي، لتمتلئ الساحة بروايات يحمل القليل منها إبداعاً جديداً ومغايراً حقاً، بينما الكثير منها يتكئ على الحكي والإثارة على حساب جماليات الرواية، وتقنياتها الفنية، وهنا لا بد من نقدٍ منهجي يثير الوعي ويواجه تحديات المرحلة الجديدة في ظل التغيرات المختلفة التي تضع النقد المعاصر في إشكالية حقيقية تتمثل في عجزه عن متابعة كل ما يطرح، وهو ما أدى لثورة الجيل الجديد على النقاد فتجاهلوا رأيهم، وانعدمت الثقة بينهم، فاتجهوا إلى الكتابة بكل أشكالها ونشروا إنتاجهم على صفحات الإنترنت ليتفاعل معه القراء، ويتصدى للنقد هواة غير متخصصين ساعدوا على تنامي هذه الظاهرة، حتى أصبحت الكتابة الروائية مركباً سهلاً يركبه كل من يجد في نفسه قدرة على الحكي كيفما اتفق، لينتج ما سمي (بفوضى الكتابة)، ما أدى إلى ظهور آراء تؤكد أنّ أزمة الرواية العربية ليست أزمة كتابة وإبداع إنما هي أزمة نقد، فتطالعنا معارض الكتب المختلفة بعدد كبير من الروايات الشبابية ما دفع بعض النقاد إلى تسميته بطوفان روائي، لكن الكثير يعده ظاهرة صحية كما قال إدوار الخراط: (إن الاجتياح الغزير للروايات يحمل في طياته قدراً من الإنتاج الجيد، والعكس صحيح، ليس الكم هو المهم في النهاية. لكن المهم هو الكيف.. وكلاهما ظاهرة صحية نرحب بها ونقدرها). ويؤيده في ذلك الروائي مجيد طوبيا: (إن ما يحدث ظاهرة صحية، أذكر في -الستينيات- كنا مئات، لم يستمر إلا المثابر والموهوب وتقاعس من كان يظن نفسه موهوباً، لا بد أن تأتي الغربلة ومن يظنون أنفسهم روائيين من الشباب سيتحولون إلى قراء يقتنون الروايات). وفي ملتقى القاهرة للإبداع الروائي كان هناك مجموعة من الكتاب الشباب يطرحون قضية غياب النقد عن أعمال كثير منهم، ويعبرون عن أزمة في التواصل مع النقد المعاصر. أمام هذا القلق من المبدعين الشباب أقرأ قولاً للروائي الكبير بهاء طاهر في إحدى حواراته أن (هذه الشكوى كنا نقولها في شبابنا، وكنا نرى أنه ليست لدينا فرصة، لأن أعمال كبار الكتاب هي التي تحظى بالقراءة والنقد وبالتالي الجوائز. لكني اكتشفت أن الزمن يتولى عملية الفرز، ولا داعي أن يخاف المبدع، لأنه سيأتي الوقت الذي تصير أعماله موضع تقدير ويتهافت عليها الناشرون.. فنحن جيل الستينيات كنا في البدايات حوالي 200 كاتب، لم يبق منا سوى 10 تقريباً). إذًا فالقضية ليست وليدة العصر أو خاصة بجيل دون آخر، بل مرحلة مر بها كبار الكتاب والروائيين وكان لهم رأي التجربة والخبرة فيما يكتبه الشباب، فعندما سئل نجيب محفوظ عن إنتاج جيل الشباب قال: (لدينا في جميع الأشكال الأدبية من رواية وقصة ومسرحية كتاب جدد مجيدون، يستطيعون لو وجدوا الفرصة أن ينشئوا ويثبتوا تياراً جديداً متكاملاً ليرفد أو ليحل محل التيارات السابقة.. ومن المؤسف أن هذا التيار لا يجد الفرص متاحة أمامه، فليس هناك تكافؤ في الفرص.. ثم إنّ هناك خطراً يواجه الشباب ويتصدى لتيارات الحداثة والتجديد، فمجالات النشر -فيما يبدو- لا تشجع). نلاحظ هنا أنّ الروائيين جعلوا مقياس النجاح في جودة العمل واعتبروا الرواية الشبابية ظاهرة عامة مستمرة من جيل لآخر، وليست فردية، ويأتي رأيهم في النقد المعاصر متفقاً مع جيل الشباب فيرى نجيب محفوظ (أن بين النقد وبين جمهور المتلقين انفصالاً كلياً)، لأسباب منها ما هو أيديولوجي حيث يفاجئ الناقد قارئه بتطبيقات بعيدة عن فهمه، وأسباب أخرى تدخل فيها المجاملة والشللية التي أضاعت الثقة في النقد. ويطالب النقاد ببذل الجهود لاستعادة ثقة الجمهور فيهم، ويؤكد ذلك بقوله: (عمري ما وصلت إلى كتاب أو مسرح إلا عن طريق ناقد ولم أخطئ أبداً في الاختيار عن هذا الطريق). هذه الشهادة من روائي بحجم نجيب محفوظ تحمّل النقد مسؤولية كبيرة في تحقيق تفاعل المتلقي وتجاوبه مع النصوص الأدبية، فهو حلقة وصل بين الكاتب والمتلقي. ويؤكد الروائي يوسف القعيد في أحد حواراته على وجود إبداع أدبي جيد لا يواكبه نقد أدبي وذلك (لأن الإبداع مسألة فردية، في حين أن النقد مرتبط بالواقع الذي يعيش فيه الكاتب). والمجتمع كله لا يقبل النقد، ويرى أن من أسباب غياب النقد قلة نشر الصفحات الثقافية في الصحف مقارنة بالصفحات الأخرى، وصرح بأن (تخلي الجامعات المصرية عن دورها الثقافي سبب جوهري في غياب النقاد)، وضرب مثلاً بكلية للآداب بجواره لا تعرف عنه شيئاً أو كما قال لا تريد أن تعرف. فإذا كان هذا هو حال الكتاب المعروفين فكيف هو بجيل الشباب الباحثين عن اهتمام حقيقي بتجاربهم وتقويمها. وقد تناول الناقد المصري د.صبري حافظ مشكلة النص الجديد الذي يعاني في نظره من الغربة ومن محدودية عدد القراء، (ولا يوجد نص يوزع أكثر من 1000 إلى 2000 نسخة.. إضافة إلى أن الجيل الجديد لم يخرّج بعد نقاده القادرين على خلق جسور جديدة بين هذه النصوص وبين القراء، وبالكاد قد بدأت عملية ظهور جيل جديد من النقاد الشباب الذين يشتغلون على النص الجديد، بعد أن أصبح هذا النص ظاهرة ثقافية لفتت إليها الانتباه). وأشار إلى أن تهمة الكتابة من دون وعي بقواعدها ولا بقواعد اللغة هو اتهام طرح كثيراً في وجه كل جيل جديد يفد إلى الساحة الأدبية، ويفسره (بالكسل النقدي الذي لا يبذل جهداً في معرفة الجديد والمختلف الذي يقدمه الشباب عادة). جزء من تعليقه صحيح، لكننا إذا نظرنا إلى واقع النقد لدينا نجد قلة في عدد المتخصصين في النقد، والمطلوب من هذه المجموعة الصغيرة القيام بأعمال تفوق قدرتها، لذا لا تستطيع ملاحقة كل ما كتب، مما يظهر حركتها بطيئة أمام تدفق الإبداع الأدبي. وهناك نقطة مهمة أخرى أشار إليها الناقد د. مجدي توفيق تتلخص في (أن النصوص الجديدة منذ التسعينيات قد حوكمت طويلاً بأكثر مما استمعنا إلى صوتها وتساءلنا عن همومها)، فالرواية الشبابية تحاول طرح رؤية مغايرة للعالم تتناسب مع الواقع، واهتمامات الجيل الجديد الذي يعاني من التهميش والاستلاب بكل أشكاله.

يظهر هنا أن العلاقة متوترة بين الإبداع الشبابي والنقد العربي، وأنّ هناك منتجاً روائياً كمياً متواتراً، ولم يستطع النقد مواكبة هذه الغزارة في الإنتاج، وأن الساحة الثقافية العربية عموماً تعاني من تحديات جديدة في ظل المتغيرات المختلفة التي يواجهها الإبداع الأدبي المعاصر، فخلقت أزمة حقيقية بين النقاد والأدباء تتعلق برؤية كل فريق لطبيعة العلاقة ومفهوم النقد لديه، ويمكننا هنا أن نشير إلى أهم الأسباب التي شكلت هذه الظاهرة:

أولها أن كثيراً من المؤسسات الجامعية والأكاديمية تحصر البحوث والدراسات في جنسٍ بعينه على حساب الآخر، بل إنّ بعضها يمنع إدراج دراسة الروايات في مناهج الأدب الجامعي، ويوجّه أساتذة الأدب والنقد إلى دراسة قضايا وظواهر محددة، للحصول على درجة أعلى أو ترقية وظيفية، مما يفرغ الدراسات النقدية من صفتها التفاعلية المواكبة للعصر ويحصرها داخل أروقة الجامعات فقط، وشكّل هذا موقفاً سلبياً من النقد الأكاديمي باعتباره ذا طابع مدرسي يحيل إلى النظريات العلمية، ويطبق المعايير الشكلية والاصطلاحية البعيدة عن أذهان المتلقين، فكان ذلك سبباً لنفور القراء والكتاب منه لصعوبة فهم النظريات المعرفية والنقدية.

ثم إنّ انشغال كثير من النقاد بالنقد الثقافي، وقضايا التلقي للإبداع الأدبي وقراءة الأنساق التي فرضت ردود فعلٍ معينة ساهمت في انتشار الرواية وإقبال جمهور القراء عليها، ومع ذلك صمت النقد أمام الطفرة الروائية الشبابية واكتفى بدراسة القليل منها وتجاهل الكثير، وانصرف إلى التنظير للظواهر الأدبية وإهمال الجانب التطبيقي الذي يسعى للبحث عن قيم جمالية جديدة للنصوص، ويكتشف طاقات أدبية جديدة تستحق الإشادة والتشجيع. كما أن أكثر النقاد يطلقون أحكاماً عامة على الرواية الشبابية من خلال نموذج محدد لا يصلح أن يكون أساساً لحكم شامل، ويصر كثير منهم على محاكمة النصوص الجديدة للشباب بالقياس على المنجز الروائي للكتاب الكبار المتمكنين من أدواتهم الفنية، متناسين أخطاء البدايات التي يقع فيها الشباب وهم يكتبون نصّاً لأول مرة، لذا اتجه الجيل الجديد إلى النشر الإلكتروني في المدونات الأدبية للوصول إلى أكبر شريحة من القراء الباحثين عن الرواية الواقعية البسيطة التي تعالج الهموم الحياتية، وظهر النقد الصحفي الذي يطلق الأحكام الجاهزة البعيدة عن التحليل العلمي الجاد، فيعلي من شأن رواية على حساب الأخرى، يدخل في هذا أيضاً المجاملات والنفاق الثقافي الخالي من الطرح العلمي الرصين الذي تعاني منه الساحة الثقافية العربية. حتى ترسخ في ذهن كثير من الكتاب استسهال الكتابة الروائية واعتمادها على الحكي المباشر بعيداً عن الالتزام الفني بمعايير الكتابة الأدبية، فظهرت روايات جديدة بركاكة أسلوبية صرفت النقاد عن دراستها، فغياب النقد المنهجي للرواية الشبابية دفع كثيراً منهم إلى التركيز على عنصر الإثارة، والجرأة على المقدس، وكسر التابو لتحقيق الشهرة عن طريق الضجة الإعلامية التي تحدثها سياسة المنع وتدخل الرقيب، وتنامي هذه الظاهرة يشكّل خطراً حقيقياً على اللغة الأدبية والعربية في ظل انتشار الابتذال بلغة عامية متدنية. وهذه الإشكالية في النقد الروائي العربي المعاصر تثير تساؤلات كثيرة، بل إن السؤال يظل قائماً: كيف يمكن للنقد الروائي العربي مواجهة هذه الأزمة لإعادة بناء حركة نقدية هادفة؟




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد