لقد تعددت الرؤى والتصورات حول أسباب نجاح بعض التنظيمات الإرهابية في تجنيد بعض الأفراد ولاسيما الشباب للتورط في تبني عمليات إرهابية راح ضحيتها الفاعل والمستهدف بالفعل من البشر
ومثاله ما ظهر في كثير مما كتب حول محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف حفظه الله. والحقيقة أن اختطاف الشباب من أسرهم من قبل طرف خارج أسرهم. وانسياقهم لتلبية مطالب الجماعات التي اختطفتهم. وتقديمهم أنفسهم -كما يبدو- بكل بساطة غنيمة أو فداء لمختطفيهم ظاهرة تستحق الوقوف عندها في محاولة جادة للتعرف على حقيقتها. وذلك درءاً لما يترتب عليها من مخاطر ومفاسد على البلاد والعباد حاضراً ومستقبلاً.. إن كثيراً مما كتب عن هذه الظاهرة لا يعدو عن كونه تأملات ذاتية غير موضوعية الأساس فيها اجتهاد شخصي في التفسير للظاهرة مصدره خبرة شخصية أو اجتهاد في غير محله لتوظيف بعض المفاهيم العلمية التي قد لا تصدق على الحالة موضوع التأمل، كما ظهر في بعض التأملات النفسية والاجتماعية التي قرأنا بعضاً منها على صفحات الصحف أو تابعناها عبر شاشات التلفاز. ولعل أبرز تلك التأملات ما انطوى على وصم المتورطين بمثل هذه الأفعال بأنهم مرضى نفسيون أو حمقى من الآدميين لا يدركون عواقب ما أقدموا عليه من أعمال. وما سوف أعرض له عبر هذه الأسطر باختصار يمثل مدخلاً للتعرف على حقيقة الظاهرة قوامه خلفية معرفية مصدرها أدبيات البحث في مجال دراسة الفرق والنحل من الجماعات والتنظيمات الأيدلوجية دينية أو اجتماعية أو سياسية أو عنصرية. وبهذه الطريقة يمكن أن تسهم المقالة في كشف النقاب عن حقائق وأفكار تتعلق بتفسير أحداث طالما أزعجتنا. وتمثل خطراً على أمن واستقرار وطننا وسلامة مواطنينا والناس أجمعين. ولنقترب باستخدام هذه الطريقة من الأساليب العلمية في تشخيص ما يعصف بالبلاد من أزمات وتتعرض له من مشكلات.
إن أدبيات البحث في المجال تؤكد على حقيقة أن المنتمين لهذه الجماعات والتنظيمات التابعة لها يخضعون لعملية تجنيد مقننة تتم عبر مراحل محددة ووفق خطوات محسوبة تستخدم فيها آليات وتكتيكات متقدمة في التأثير على تفكير واعتقاد وسلوك من ينضم إليها.
وبالتالي، فالمتوقع أن يكون المخرج ولاء مطلقاً للجماعة أو التنظيم. ينتهي بالتضحية بالمال والأهل والولد. وأبعد من ذلك تدمير الذات أو الانتحار استجابة لمطالب هذه الجماعات والتنظيمات. وهذا ما شهدناه عبر موجات الإرهاب التي عانت منها البلاد وبلاد أخرى. أزهقت إبانها أرواح أبرياء ودمرت صروح وممتلكات. وكان من بين من تورط فيها عدد لا يَستهان به من أبناء هذا البلد الكريم في الداخل والخارج. أقدموا على هذه الأفعال الشنيعة طواعية لا كرها ويبقى السؤال: كيف يتأتى لشخص عاقل أن يستجيب لنداء خاسر من مصدر مخادع وماكر، فيعرّض نفسه للهلاك ومواطنيه للخطر وبلاده للدمار؟.
إن الإجابة على مثل هذا السؤال تتطلب الوقوف على أمور عدة تتعلق بمعرفة خصائص هؤلاء الأفراد المتورطين بمثل هذه الأعمال وطبيعة الجماعات والتنظيمات التي ينتمون إليها، وكيف تمكنت تلك التنظيمات من التأثير عليهم باستمالتهم أو إقناعهم في الاستجابة لمطالبها بالتفجير والانتحار بالشكل الذي شهدناه عبر هذه السنوات؟
وفي أكثر من موقع ومكان. وما هي الأساليب والتكتيكات المستخدمة في الاستمالة أو الإقناع للإقدام على التصرف المشين المطلوب من قبلها؟ إن أدبيات البحث في مجال التنظيمات التي يجنّد فيها أمثال هؤلاء الأفراد تؤكد بأن الأفراد المنتمين لمثل هذه التنظيمات يخضعون لبرامج مكثفة من إعادة التنشئة أو التربية والتثقيف للأتباع فيها تعرّف اصطلاحاً ببرامج (إصلاح الفكر أو التشريب الأيدلوجي) أو ما يعرف في الدارج بعمليات (غسيل المخ). والظاهرة ليست بدعاً، فقد عرفت عبر حقب التأريخ المختلفة عند الفرس والرومان والمسيحية وفي الإسلام. وما حركات الخوارج و الحشاشين التي عانت من أفعالها مجتمعاتنا المسلمة ردحاً من الزمن إلا أمثلة حية لمخرَجات هذه التنظيمات لمثل هذه الجماعات.
هذا وقد تطورت أساليب وتكتيكات التجنيد للأفراد عند هذه الجماعات في العصر الحديث ليتم فيها التجنيد عالي التقنية والذي نشهد مظاهر له متعددة في أيامنا المعاصرة. وما محاولة الاغتيال الغاشمة التي تعرض لها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف إلا واحدة منها، غير أن كيد الكائدين باء بحمد الله بالفشل. ولا شك أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله.
يتبع الحلقة 2
أستاذ علم النفس الاجتماعي - جامعة الملك سعود - عضو الفريق العلمي - كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري