بينما كانت اللجنة المعنية بكارثة جدة، التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- تقوم بأعمالها، وتواصل اجتماعاتها، وتصل نقاشاتها بالوقوف الفعلي والمباشر على المواقع المتضررة بُغية تقصي الحقائق ومعرفة المتسببين والمتورطين بتلك الفاجعة، كان أبناء وبنات جدة يفون بموجبات تعاليم الدين ويحققون معنى التواصي بالحق والصبر، ويمارسون عملاً من أعمال البر، ويقدمون نموذجاً متميزاً للرأفة والرحمة والإحسان، وإقالة عثرات الكرام، كانوا مثالاً للجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد..، فأبناء وبنات جدة هبّوا لمساعدة ومساندة إخوانهم المتضررين، بتقديم سلال الغذاء والكساء وبعض المعونات الأخرى، دافعهم الإحساس الإنساني النبيل بأوجاع الناس ومصابهم، ودافعهم الواجب الديني والوطني في صورة من صور التكافل والتراحم التي تستحق الاحترام.ووجودها على تلك الكيفية دليل على أن ضمير الناس (الشعب) ووجدانهم الجمعي يتوافر على جوهر الدين (الرحمة)، ومزيته المشاركة والتكافل، وقيمة إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج.هم معنى الفضيلة، حتى وإن جاس بينهم وترصَّدهم من يبحث عن نقيضها، أو عن شيء تضمره نفسه.
صنيع أبناء وبنات جدة معروفٌ لم يدفعهم إليه إلا صوت ضمائرهم ومروءاتهم، معروفٌ إرادي لا إداري، من الواجب تشجيعه وتنميته والإشادة به حتى يتكرر ويتكرس، وتتأصل قناعة الناس بأهميته وجدواه.
أما النموذج الآخر، فهم الإخوة الفضلاء الـ(54) الذين سمَّوا أنفسهم علماء ودعاة وأصدروا بياناً تصدَّره (التحذير من الذنوب والمعاصي، وضرورة الإيمان بالقضاء والقدر). ولهؤلاء طريقتهم الخاصة في قراءة الكارثة، ولهم أدواتهم في استنتاج دلالاتها. وليس كل ما احتواه بيانهم خطأً. وليس كل ما قالوه لا يجدي. ولكن أحدهم لم يتصدَّ يوماً في خطبه وبياناته لتذكير المسؤولين بأمانة الواجب والتزامات الضمير. وأحدهم لم يتحدث يوماً في خطبه وبياناته عمَّا أولته الشريعة لحرمة النفس من أحكام وما سنّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تعاليم للمعاملات بين الناس وحقوقهم، وعظم ذنب الإضرار بهم، حيث قرن الرسول الأكرم -عليه صلوات الله وسلامه- بين الشرك بالله والإضرار بالناس. وهؤلاء يعيشون في عالم غيبي لا يدركون من خلاله الواقع الحقيقي للناس، ومن ثم يسقطون على الناس أوهامَهم. وهؤلاء لا يمسهم ما يمس المواطن العادي من نَصَب وضرَّاء، ولا يعانون ما يعانيه الناس. والطريف أن بيان هؤلاء خُتم بضرورة تعزيز دور الدعاة.
وهم يعلمون أنهم وأولئك يتعزز دورهم دائماً لأنهم من الشائع المستقر. ولأن مهمتهم من تلك المهمات التي لا يتطلب التمتع بمقوماتها جهداً كبيراً. ونحن في بلاد الحرمين الشريفين وفي ظل دولة تحكم بشرع الله، لا نحتاج مزيداً من هؤلاء إذا ما كان وعيهم بفقه الدعوة وأولوياتها على هذا المثال.ونحن في خضم تلك المأساة قد لا نكون بحاجة إلى ذلك التصريح على الوصف الذي احتواه بيانهم. فالناس المفجوعون بحاجة إلى تذكيرهم برحمة الله، وضرورة احتساب الأجر من عنده على ما أصابهم، والتأكيد على موقف ولي الأمر من تلك الكارثة، وموقفه النبيل من حق الرعية عليه، وأدائه واجبه على الوجه الأكمل ورعايته المثلى لمسئولياته كما جاء في خطابه الكريم، وما تلاه من إجراءات.ونتساءل: أليس في بيان وموقف هؤلاء الإخوة الكرام ما يشي بالمتاجرة بفجيعة المواطنين لتسجيل مواقف؟ أيعقل أن يُفكر أحد أن ما أصاب الناس في جدة لم يكن إلا بسبب ذنوبهم أم أنها عقدة الإثم التي تمثل ركيزة في عقول المغرمين بالبيانات؟! هل الدول التي أُحسن فيها نظام تصريف مياه السيول والأمطار أتقى وأقرب إلى الله، وأقل ذنوباً من أهل جدة؟ في أي فلك تسبح ضمائر وعقول هؤلاء؟! ولله الأمر من قبل ومن بعد.